الإصدار: السادسة – آب/ أغسطس 1998
دار النشر: دار العلم للملايين – بيروت

تصدير
الكتاب الأول
التربية في البلاد العربية خلال الستينات
تصدير الكتاب الأول: نحو بناء تربية المستقبل في البلاد العربية 5
الفصل الأول: تطور التربية في البلاد العربية ومشكلاتها 15
الفصل الثاني: أمهات العوامل التي أثرت في مسيرة التربية في البلاد العربية 45
الفصل الثالث: أزمة التطور الحضاري في البلاد العربية ودور التربية في مواجهتها 77
الفصل الرابع: دور التخطيط التربوي في علاج مشكلات التربية في البلاد العربية 111
الفصل الخامس: قصة التخطيط التربوي في البلاد العربية وفي العالم 137
الفصل السادس: التربية وتنمية الموارد البشرية في البلاد العربية 149
الفصل السابع: التخطيط للتعليم العالي في البلاد العربية وعلاقته بخطة التنمية 185
الفصل الثامن: التخطيط التربوي في البلاد العربية من أجل الثورة العلمية والتكنولوجية 209
الفصل التاسع: الإدارة التربوية في البلاد العربية في ضوء مستلزمات التخطيط التربوي 235
الفصل العاشر: دور الإحصاء في التخطيط التربوي في البلاد العربية 251
الفصل الحادي عشر: تسرب التلاميذ في البلاد العربية 273
الفصل الثاني عشر: نحو فلسفة تربوية عربية 319
الكتاب الثاني
التربية في البلاد العربية خلال السبعينات وآفاقها المستقبلية حتى
خاتمة القرن العشرين
القسم الأول: حصاد المؤتمرات الكبرى حول التربية في البلاد العربية في السبعينات وما بعدها 343
الباب الأول: المؤتمر الرابع لوزراء التربية والتعليم العرب 349
الباب الثاني: استراتيجية تطوير التربية العربية 361
الباب الثالث: مؤتمر وزراء التربية والوزراء المسؤولين عن التخطيط الاقتصادي في الدول العربية 407
الفصل الأول: تطور التعليم في البلدان العربية منذ سنة 1970 416
الفصل الثاني: العالم العربي اليوم وغداً: البحث عن استراتيجيات للتنمية ومتضمناتها بالنسبة للتربية 435
الفصل الثالث: استراتيجيات جديدة للتنمية التربوية في البلدان العربية 464
الفصل الرابع: إعادة تشكيل النظم التعليمية وتحقيق ديمقراطيتها في سياق التنمية الاجتماعية والاقتصادية 497
الفصل الخامس:سبل تنفيذ الاستراتيجيات الجديدة 533
الفصل السادس: التعاون الدولي الإقليمي من أجل التنمية التربوية في الدول العربية 548
الباب الرابع: مؤتمر الوزراء المسؤولين عن التعليم العالي في الوطن العربي 613
الفصل الأول: ملخص البحوث التي قدمت إلى المؤتمر 617
الفصل الثاني: التقرير النهائي للمؤتمر الأول للوزراء المسؤولين عن التعليم العالي في
الوطن العربي 641
خاتمة القسم الأول 661
القسم الثاني: التربية العربية على أبواب الثمانينات وأبعادها المستقبلية حتى عام 2000 669
الباب الأول: واقع التربية في البلاد العربية بعد عام 1975 وآفاقها المستقبلية 673
الباب الثاني: تأملات وأفكار حول مستقبل التربية في البلاد العربية 703
الفصل الأول: نظرة سريعة إلى مشكلات التنمية الشاملة في البلدان العربية 708
الفصل الثاني: التربية العربية والتنمية العربية 736
الفصل الثالث: نحو نظرية تربوية عربية 747
الفصل الرابع: التربية العربية أمام تحديات العصر 754
ملحق: 779
تعريب التعليم العالي: مشكلات ومقترحات 780
الخاتمة 798
مصادر حول التعريب 801
لا مراء في أن التربية في البلدان العربية قد عرفت خلال العقدين الماضيين خاصة تقدماً متسارعاً، يختلف شأنه بين بلد وبلد دون شك، ولكنه فيها جميعها يسير مغذّ الخطى، يجهد في يسر حيناً وفي عسر أحياناً لتلبية مطالب الأعداد المتزايدة من طارقي أبواب التعليم في مراحله المختلفة وأشكاله المتعددة.
لقد أصبحت التربية حقاً، في أصقاع الوطن العربي، «صناعة كبرى» تُحشد من أجلها الموارد المالية والبشرية، المقصّرة عن الشأو غالباً، وتُعبّأ في سبيلها طاقات الأجهزة الإدارية المعنية، وتلقى من منتجيها ومستهلكيها النقد والتجريح، وتطرق نتاجها الألسنة والأقلام، منافحةً عنها لماماً، مشكّكة في مسيرتها مسرفةً أو مقتصدة.
ذلك أن مشكلات التربية تزداد تعقيداً وتأخذ أبعاداً جديدة كلما أمعنت التربية في التطور، فللتقدم مشكلاته المتقدمة، وتعاظم المشكلات هو الحصاد الطبيعي لتعاظم النمو أنّى كان.
والحق، إن التربية في البلاد العربية، في بواكير انطلاقتها، قد استهدفت أولاً وقبل كل شيء قبول أكبر عدد ممكن في المدارس وتحقيق التوسع الكمي بالتالي أياً كان شكله وأياً كانت أهدافه. وقد أمكن، خلال العقدين المنصرمين، تحقيق جانب كبير من هذا المطلب إلى حدّ بعيد، فقامت المدارس على قدم وساق، ودخل الطلاب إليها زرافات ووحداناً حتى غصت بهم أرجاؤها، وأوشك التعليم الابتدائي أن يكون عاماً شاملاً لفئة العمر المقابلة له، ما خلا بلداناً عربية قليلة، وتزايدت أعداد طلاب التعليم الثانوي أضعافاً مضاعفة، وأنشئت الجامعات ومعاهد التعليم العالي تترى، ترتادها أعداد متزايدة من الطلاب كادت تبلغ نسبتهم إلى فئة العمر المقابلة 10%، هذا فضلاً عن الجهود المتكاثرة في ميادين مكافحة الأميّة وتربية الكبار والتربية المستمرة، وعن بعض الخطوات الطيبة التي ما تزال تسير على مهل واستحياء في مجال التعليم السابق على المدرسة الابتدائية.
ولكن على الرغم من هذا التزايد الفذّ في أعداد الطلاب بل بسببه، ما لبث القائمون على أمور التربية حتى أدركوا أن غايات التربية الحقيقية لما تبلغ مستقرها، وأن المطلب شاق والمزار عسير، وأن دون تحقيق أهداف التربية العميقة أهوالاً وأهوالاً. وقد قادهم إلى تبيّن هذه الحقيقة أمران رئيسان متكاملان إلى حدّ بعيد:
أولهما أن توفير مستلزمات التطور الكمّي نفسه كاملةً غير منقوصة أمرٌ تنوء بحمله إمكانات الدول المالية والبشرية، وأن هذا التقدم الكلي كاد يبلغ، بسبب ذلك، حداً يصعب تجاوزه، رغم أنه ما يزال مقصراً عن الشأو المطلوب. فالتربية تستنفد شطراً كبيراً من ميزانيات الدول العربية (بين 20-30%) ومن دخلها القومي (حوالي 6%) وليس من الرشاد في شيء أن يطغى الإنفاق عليها على الإنفاق في ميادين أخرى من التنمية الاقتصادية والاجتماعية تشتد الحاجة إليها، بل يكون تطويرها والعناية بها شرطاً لازباً للإفادة من الأعداد الضخمة التي ينتجها نظام التربية ولتوظيفها توظيفاً منتجاً فعالاً. وإلاّ كان حصاد ذلك كله ضرباً خطراً من البطالة، هو بطالة المثقفين. فما السبيل إذن إلى توفير فرص أكبر لطالبي التعليم في مراحله المختلفة، وإلى توفير الإمكانات المادية والبشرية اللازمة لذلك، دون أن يتم هذا كله على حساب مشروعات التنمية الأخرى، بل بحيث يتم في تكامل معها واتساقٍ مع مطالبها؟
هذا التساؤل ينقلنا تواً إلى الأمر الثاني الذي استبان للمسؤولين عن مسيرة التربية والذي ولّد لديهم رؤية جديدة للأمور، وفتح أعينهم وبصائرهم على جانب لم يَقْدُروه حق قدره في بداية انطلاقة التربية. ونعني بهذا الجانب الوجه النوعي الكيفي للتربية. وههنا أمورٌ وأمور وشجون وشؤون، يستغرق الحديث عنها أسفاراً برأسها. وحسبنا أن نجتزئ منها أمهاتها وأن نشير إليها إشارات رفيقة خاطفة بلغة أشبه ما تكون بلغة البرقيات:
1- ما السبيل إلى ركوب مركب التجويد النوعي الكيفي للتربية من أجل التغلب على مشكلات التطور الكمي المتسارع؟ أو بتعبير آخر، كيف نجعل من اصطناعنا لطرائق أفضل وتقنيات أكمل ومحتوى أمثل وبنى أحدث (في مجال التربية طبعاً) سلّماً لمعالجة مشكلة نقص الموارد المالية والبشرية، أي سبيلاً للوصول إلى تعليم عدد أكبر من الطلاب تعليماً أفضل بنفس الإمكانات المالية والبشرية المتوافرة؟ أو إذا أردنا استخدام المصطلحات السائدة يومنا في مجال الاقتصاد والإدارة: كيف نصل، عن طريق توليد نظام تربوي جديد المحتوى والطرائق والبنى والإدارة، إلى الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة؟ وهل تمكّننا الأساليب الجديدة المولدة في ميدان الوسائل السمعية والبصرية وتكنولوجيا التربية وتطوير المناهج وزيادة فعالية الإدارة من أن نحطّم جدران الصف المدرسي، كما يقال، بحيث نتجاوز الصيغة التي حكمت قروناً تطور التربية وأعداد طلابها ومعلميها ونفقاتها المالية، نعني الصيغة المبنية على أساس الصف الذي يضم عدداً محدوداً من الطلاب يعلمهم معلم؟ وهل تقوى هذه الأساليب الجديدة في التربية على تقليص محتوى الدراسة (بحيث تنضو عنه الزائد والمكرور) وعلى تقليص سنوات الدراسة نفسها تبعاً لذلك (ولا سيما إذا نُظر إلى التربية التي تقدم على مقاعد الدراسة من منظور التربية المستمرة)؟ وهل في التقنيات الجديدة في الإدارة والتسْيير والتخطيط ما يمكننا من تخفيض كلفة التربية عامة وكلفة البناء المدرسي خاصة، ومن القضاء على الهدر والضياع في كثير من النفقات؟ وما عسى أن تسعفنا به الوسائل المتصلة بتخفيف نسب التسرب والرسوب (وهي نسب عالية جداً في بلداننا وسائر البلدان النامية) وهل لها أن تزيد المردود الداخلي للتعليم مع الحفاظ على جودته؟ وكيف تمكننا السبل المحدثة في تدريب المعلمين من تخفيض أعداد المعلمين اللازمين دون أن يتم ذلك على حساب النوع والجودة (التعليم عن طريق فريق من المعلمين Team Teaching، نظام العرفاء الخ..)؟ وهل في وسائل التعليم الذاتي، بأشكاله المختلفة (عن طريق التعليم المبرمج، أو التعلم بالمراسلة، أو اللجوء إلى الحاسبات الإلكترونية، أو تزويد المدارس بمراكز للمعلومات الخ..) ما يضيّق الحاجة إلى التعليم المباشر بوساطة المعلمين؟ إن التساؤلات حول هذه الأمور كلها وحول كثير سواها تغزو أذهان المسؤولين وتضعهم أمام مهمات جديدة وتنقلهم من مرحلة البذل المادي وحده في سبيل تنمية التربية إلى منزلة أسمى وأعمق، منزلة البذل الفكري وتوظيف الفكر الصنَّاع والدراية التقنية في معالجة المشكلات والتغلب عليها. أو ليس من الصحيح القول إن البديل دوماً عن نقص الموارد المادية أو شحّها أو نفادها شحذ القرائح والأفكار وتوظيف الإبداع والابتكار من أجل توليد صيغ وأساليب وأدوات أجدى وأنجع؟ وهل تاريخ الإنسان سوى تاريخ التغلب على حدود الموارد الطبيعية عن طريق استغلالها استغلالاً أمثل؟ وإذا كان الفن – في تعريف أحدهم – هو الإنسان مضافاً إلى الطبيعة، أفلا تصدق هذه المقولة على كل شيء وتنسحب على التربية بوجه خاص؟ حقاً إن المادة الرمادية القائمة في الدماغ البشري هي المورد الذي لا ينضب وإن نضبت موارد الطبيعة.
2- لقد أتى على المربين – ولا سيما في البلدان النامية – حينٌ من الدهر حسبوا فيه أن مجرد التوسع في التعليم وفتح المدارس على مصراعيها قمينٌ بأن يؤدي إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لأي بلد. ولم يدركوا إلا بعد لأي، ولعل بعضهم لم يدرك حتى اليوم، أن التربية التي تؤدي إلى التنمية ليست أي نوع من التربية. بل لم يدركوا أن مجرد التوسع في التربية قد يقود إلى أهداف مناقضة لأهداف التنمية. غير أنهم ما لبثوا حتى تبيّنوا أن التوسع التربوي المطلوب من أجل تحقيق غايات التنمية ينبغي أن يسير في أعداده ومحتواه وأشكاله سيراً منطلقاً من تلك الغايات متفقاً معها متناغماً وإياها. وهكذا بدأت المحاولات جادة في سبيل تنويع التعليم ونشر التعليم الفني والمهني وبث التربية العلمية والتكنولوجية وربط المدرسة بالعمل وبالحياة، فضلاً عن رسم سياسة للالتحاق بأنواع التعليم والانتساب إليها مبنيّة على أساس حاجات سوق العمل ومطالب إعداد الطاقة البشرية اللازمة للصناعة والزراعة والإدارة وسواها.
وههنا واجهتهم العقبات ووجدوا أن الغاية واضحة سوى أن الدرب إليها طويل ومعقد وشائك. فما الذريعة إلى تغيير مواقف الآباء والأبناء التقليدية من العمل المهني والفني عامة ومن العمل اليدوي خاصة، في مجتمعات ما تزال ترى في المهنة اليدوية والتقنية امتهاناً وتعتبر الهدف من تعليم أبنائها تخليصهم من آفات العمل اليدوي، زراعياً كان أو صناعياً؟ وما هي الطرائق المجدية من أجل الكشف عن قابليات الطلاب وتوجيههم شطر فروع التعليم التي هم لها أهيأ؟ وما هي الصيغة المثلى لإدخال بواكير التعليم الفني والمهني في التعليم العام نفسه بدءاً من المرحلة الابتدائية بل قبلها؟ وإذا تم ذلك كله جدلاً، كيف تمكن المواءمة بين التوسع في التعليم المهني والفني وبين قدرة سوق العمل على امتصاص خريجيه، لا سيما أن استيعاب سوق العمل للخريجين رهنٌ بإيجاد فرص للعمل لا تنبع إلا من خطة متوازنة للتنمية الصناعية والزراعية وسواهما تحتاج بدورها إلى المال والرجال وتكاد توقع التنمية والتربية كلتيهما فيما يشبه الدور الفاسد Vicious Circle؟ وإذا كان سبيل ذلك كله، وسبيل كسر الدور الفاسد خاصة، هو سبيل التخطيط الاقتصادي والاجتماعي والتربوي المتوازن، فهل من اليسير توفير الأخصائيين اللازمين العارفين القادرين، وهل يتم ذلك دون أن يسبق هذا كله قرار سياسي من سلطة تخطيطية واعية مدركة؟ وفوق هذا وذاك هل تستطيع الدول العربية الفقيرة بمواردها المالية أن تحقق مثل هذه الخطة الشاملة المتوازنة، إن عزمت أمرها على ذلك، دون ما تعاون وثيق عربي خاصة ودولي عامة؟ والدول العربية الغنية بمواردها المالية، هل تستطيع حقاً أن تحقق هذه التنمية المتوازنة على المدى البعيد إن لم تعزم أمرها على امتلاك القدرة العلمية والتكنولوجية الذاتية، مخلّفةً وراءها الطريق الأسهل، طريق الاعتماد على استيراد العلم والتكنولوجيا؟
أسئلة كثيرة ترسم إشارات استفهام خطيرة حول المرجو من هذا التوسع الكمي في التربية توسعاً لا يومئ إلى ارتباط عضوي وثيق بينه وبين مستلزمات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، تلك المستلزمات التي تكوّن الأصل والجوهر والهدف من التربية.
وفي إطار هذا كله، بل فوق هذا كله، يدرك المسؤولون عن التربية في البلدان العربية يوماً بعد يوم أن الربط بين التربية والتنمية الشاملة ينبغي أن يعني في أعماقه توليد نظام تربوي عربي أصيل، لا نقل نظم تربوية مجلوبة. ومثل هذا المطلب السامي، ليس مجرد أمنية تلقى أو شعار جميل يمضغ، بل لابد فيه من جهد علمي يرتكز أولاً وقبل كل شيء على البحث العلمي والتربوي، وعلى التجربة والاختبار، ويفرض على الدول العربية أن تخصص جانباً مرموقاً من ميزانياتها للبحث بأشكاله المختلفة.
3- هذا المطلب الأخير ينقلنا إلى مطلب المطالب، ألا وهو وضع فلسفة تربوية عربية الأهداف والمحتوى. وههنا أدرك القائمون على شؤون التربية في البلاد العربية أنهم اضطروا إلى حين، أمام وطأة الضغط الكمي على التعليم، إلى إهمال هذا الجانب إلى حد بعيد. لقد كان شأنهم أشبه بشأن من يبني سفينة دون أن يدرك بوضوح أي نوع من السفن يبغي: أيريدها زورقاً أم سفينة شراعية أم بارجة أم حاملة للطائرات أم ماذا؟ وبتعبير أوضح ما تزال الإجابة على هذا السؤال الأساسي ناقصة: أي إنسان نريد أن نعدّ عن طريق نظم التربية في بلادنا؟ ما هي القيم التي نود أن نغرسها لديه، وما هي القدرات والمهارات التي نود أن ننميها عنده، وما هي صورة المجتمع الذي نود أن نبنيه عن طريقه، وما هو دوره في تطوير المجتمع وتجديده؟ وهذا كله لابد أن ينبع من تصور واضح لمعالم النظرية العربية المرجوة ولسمات المجتمع العربي الذي نود أن نشيده. وإذا كان ثمة وفاقٌ حول خصوصية النموذج العربي في التنمية وحول ضرورة تفرّد الحضارة العربية المنشودة واتسامها بلُويْنات وشيات خاصة تغني عن طريقها الحضارة العالمية وتتفاعل وإياها، فمثل هذا الوفاق لم تنعقد أواصره بعد فيما يتصل بسمات ذلك النموذج وقسمات تلك الحضارة. لقد آن الأوان حقاً لوضع المعالم الواضحة للثقافة العربية وللتجربة الحضارية العربية. وعن مثل هذه المعالم المبينة المحددة يمكن أن تصدر الفلسفة التربوية الذاتية الخاصة بالبلدان العربية وأن تصدر بالتالي مناهجها ومحتواها وأساليبها.
4- إن هذا كله يطرح على أهل الحل والعقد في التربية موضوع التجديد التربوي ويشير إلى أهميته. إنه يضع المسألة في هذا الإطار الأساسي: لابد من توليد نظام تربوي حديث وأصيل معاً، أصيل في حداثته، حديث في أصالته. ولكن مركب التجديد مركب صعب، وكثيراً ما يؤثر العاملون الاحتماء بالقديم، على بلاه، على المغامرة في دروب جديدة لا يعرفون مآلها. والتجديد، إن لم يكن عن بيّنة وإن لم يصدر عن يقين بسلامة الطريق، لا يغري ولا يحفز. فما السبيل إلى مثل هذا التجديد المطمئن؟ وكيف يستطيع البحث التربوي أن يسهم في تخليقه وتوليده؟ وكيف يتأتى لمن يدْلون بدلائهم فيه أن يعرفوا حصاد التجربة العالمية حوله وأن يستبينوا الغث من السمين؟ وما دور الإعلام عن التجديد وعن تجاربه في مثل هذا المطلب؟ وما دور التفاعل بين التجارب العربية التجديدية في رسم طريق مضمونة ودرب جَدَد؟ وما هي بالتالي الصيغة التنظيمية المرجوة من أجل توفير الشروط السليمة للانطلاق في طريق التجديد التربوي في البلاد العربية، بحيث تتوافر لهذه الصيغة مستلزمات التعرف على نتاج التجربة العالمية والعربية معاً، وبحيث تتولد من لقائهما شرارة التجديد الواثق المجرَّب؟
الطريق إذن ما تزال طويلة، وقد صدق قولنا منذ البداية إن تقدم التربية يطرح على البلدان العربية مشكلات متقدمة. ووجود هذه المشكلات وإدراكها من قبل المسؤولين هو في أعماقه ظاهرة إيجابية، ومن غير النُصف أن نقول إنها تنقص من شأن الجهود التي بذلت وتبذل في سبيل تطوير التربية أو إنها تقدم صورة قاتمة عن التربية في البلدان العربية. فسنة التطور لا تسمح بالطفرة، ولابد أن يلعب الزمن دوره في تفتيق المشكلات وإنضاجها، فضلاً عن أن هذه المشكلات لا تواجه البلدان العربية وحدها بل تواجه سائر البلدان النامية بل كثيراً من البلدان المتقدمة نفسها. وكل ما في الأمر أن الوقت قد حان لمعالجة هذه المشكلات في بلادنا وأن الجهود ينبغي أن تتجه في جد ودراية نحو حلّها. وهذا ما قصدنا إليه من طرحها، أخذاً بالمثل اللاتيني القائل: «إجادة طرح المشكلة نصف العلم» وتأسياً بالقول العربي القائل: «نصف العلم
لا أدري».
والكتاب الذي نقدمه اليوم مدخلٌ لازب للقيام بهذا الجهد المرجو. إنه يطرح المسألة في أبعادها المختلفة، إذ يقدم عرضاً وصفياً وتحليلياً شاملاً لمسيرة التربية العربية، كماً وكيفاً، خلال العقدين الأخيرين. بل هو يُرْبي على ذلك إذ يُرهص بتطوراتها المرتقبة خلال العقدين القادمين.
ولا حاجة إلى القول إن رسم ما ينبغي أن يكون لابد أن ينطلق من معرفة دقيقة بما هو كائن، وإن بداية الدرب أن توضع أمام أعين المعنيين بالتربية صورة واضحة عن واقعها وتطورها ومشكلاتها، بحيث يحكمون عن بيّنة ويَشْرئبّون إلى ما يرغبون فيه وأقدامهم مطمئنة إلى الأرض، وبحيث لا يهرفون بما لا يعرفون.
من أجل هذا كان هذا الكتاب ثبتاً مفصلاً قدر المستطاع بنمو التربية في البلاد العربية، يشير إلى تطور أعداد الطلاب في مراحلها وأنواعها المختلفة، وإلى تطور جوانبها النوعية الكيفية، ويكشف عن ثغراتها ومشكلاتها، ويكاد من خلال ذلك كله يومئ بالحلّ ويهدي إلى السبيل. إنه يطمح إلى أن يستنطق الإحصاءات والبيانات كيما تفصح عن المشكلات، وتدلّ على «الدروب الحرجة» التي تواجه التربية، وتمهّد السبيل بذلك إلى الانطلاق نحو الحلول المجدية السليمة.
وهو فوق هذا، بل قبل هذا، ينطلق من حقيقة علمية لبست شأناً خاصاً في شتى العلوم والدراسات خلال العقدين الماضيين، قوامها أن التربية «نظام» شامل متآخذ العناصر والمقومات، تأخذ أعناقها بأعناقها، ولا تصلح النظرة إليها إلا من خلال عرض شامل لجميع أوجهها وجوانبها. ومن هنا كانت البيانات التي يقدمها بيانات تعانق عناصر التربية كلها، وكان التحليل الذي يطرحه تحليلاً يقلّب النظام التربوي في البلاد العربية على وجوهه المختلفة ويحاول أن يستنفدها حتى لا يبقي فيها بقية. وقناعته بعد ذلك عميقة بأن مثل هذا المتكأ الوصفي التحليلي الشامل من شأنه أن يؤدي بالتالي إلى معالجة مشكلات التربية معالجة شاملة، وأن يطرقها «كنظام»
لا معنى للتصدي إلى إصلاح جانب منه إلا في سياق إصلاح صويحباته وأترابه. فلطالما تساءل العاملون على إصلاح التربية وسواها: من أين نبدأ؟ وكثيراً ما تراءت لهم أولويات لم تستبن نتيجة للتمحيص العلمي الشامل، بل كانت أقرب إلى الخُبر والمعاناة، وكلاهما لا يغني عن الدراسة العلمية الكاملة شيئاً. وعندنا أن الجواب على تساؤلهم الهام هو الآتي: لابد من البدء بالنظرة الشاملة والمعالجة المتكاملة. أجل، من الكلّ نبدأ، وإن بدا في ذلك تناقض في الكلم، ومنذ البداية نجمع ولا نفرّق، ونصل ولا نفصل. منذ البدء ندرك الأمور في سياقها الكلي، تأكيداً لحقيقة قررها علماء نفس الصيغة Gestalt، ووكدتها الدراسات العلمية الحديثة التي ترى في كل شيء «نظاماً» والتي تدرك الكون كله على أنه نظام تندرج تحته نظم فرعية.
وبعد، لقد صدر كتابنا الذي يحمل عنوان هذا الكتاب نفسه، في طبعته الأولى عام 1974، واقتصر بالتالي على بيان واقع التربية ومشكلاتها في البلدان العربية خلال الستنيات. وكان لابد من تجديد ذلك الكتاب بحيث يتجاوز الستينات إلى السبعينات. ولقد شعرنا منذ زمن، وشعر معنا قارئو الكتاب، أن ما فيه من بيانات وتحليلات قد تجاوزها الزمن وغدت إلى حدّ ما أقرب إلى التاريخ.
ومن هنا عقدنا العزم على إعادة صياغته وعلى جعل بياناته معبرة عن واقع اليوم لا واقع الأمس، فضلاً عن الإطلالة من خلال الأمس واليوم إلى الغد. وكان أمامنا من أجل هذا خياران: أولهما أن نعدّل في الإحصاءات والتحليلات الواردة في صلبه بحيث نضمّنها إحصاءات وتحليلات جديدة عن واقع التربية خلال العقد الأخير حتى اليوم. وثانيهما أن نضيف إلى الكتاب الغابر جزءاً جديداً يشتمل على الحاضر وعلى رؤى المستقبل. وقد آثرنا الخيار الثاني لسببين: الأول أن ما قمنا به في كتابنا التليد من بيان وتحليل للتربية العربية خلال الستينات جديرٌ بأن يظل بكامله بين أيدي الدارسين، بوصفه مرجعاً عن تطور التربية في ذلك العقد، ومنطلقاً لابد منه يكمل البيانات والتحليلات المتصلة بتطور التربية في السبعينات ويشير إلى خط مسارها السابق. والثاني أن السبعينات قد شهدت مؤتمرات ودراسات هامة حول التربية في البلدان العربية لا يغني عنها أن نجتزئها وأن نقدمها مخزومة مبعثرة، بل لابد أن نعرضها بتمامها.
ومن هنا حوى السفر الذي بين يدينا اليوم كتابين في دفته: أولهما كتابنا السابق عن التربية في البلاد العربية الذي وقف في معلوماته وتحليله عند أواخر الستينات. وثانيهما كتابٌ جديد مكمل له يصف التربية في البلاد العربية ويحللها خلال السبعينات ويطلّ من وراء ذلك على الثمانينات والتسعينات.
على أن من الحق أن نقول إن النتائج التي انتهينا إليها من خلال تحليل التربية العربية في الستينات ما تزال تصدق إلى حد بعيد على تحليل التربية إبان السبعينات، وإن اتخذت في هذه الأخيرة طابعاً أوضح وأقوى.
فالمشكلات ما تزال عينها إلى حد بعيد، بل لعلها ازدادت حدة وقسوة، وهذا ما أرهصنا به حين حللنا التربية العربية في الستينات. ولا نغلو إن قلنا إن نبوءاتنا آنذاك، وهي فيما أردنا نبوءات علمية لا رجماً بالغيب، قد صدّقتها مسيرة التربية في السبعينات وتصدقها التأملات والإسقاطات المتصلة بما ستكون عليه التربية في العقدين الأخيرين من هذا القرن، إن استمرت الاتجاهات الحالية ولم يقم جهد جاد في سبيل تعديلها وحرف مسيرتها.
لقد أشرنا في كتابنا السابق إلى أزمة التربية، وقوامها تقصير الموارد المالية والبشرية عن حاجات التزايد المتسارع في أعداد الطلاب. وهذه الأزمة قد اشتدت وذرّ قرنها. وأشرنا إلى مشكلات التطور النوعي الكيفي وثغراته، وهي اليوم أعنف وأوسع. وأومأنا إلى الحلول إذ ذاك، وهذه الحلول ما تزال ضالّة التربية العربية.
هل نقول إذن مع ابن خلدون: إن الآتي أشبه بالماضي من الماء بالماء؟ أم نقول، وهذا أحذق: إن التغيير لا يأتي عفو الخاطر، وإن السعي له هو الذي يوصلنا إليه، وإن إرادة التعبير وامتلاك القدرة على التغيير شرطان لازبان لأي جهد ناجح؟
إن عامل الزمن قول حق، ولكن شريطة أن نضع في الزمن كل ما نملك من جهد وعطاء، وأن نمتلك ناصيته وأن نصنعه بدلاً من أن يصنعنا ونقطعه بدلاً من أن يقطعنا.
وواقع الأمة العربية والتحديات التي تواجهها تملي علينا أن نكون في سباق مع الزمن في كل شيء وفي أي ميدان. ولقد غدت السنون القليلة في منطق عصرنا الحاضر تعدل السنوات الطوال مما كنا نَعدّ في الفترات الخوالي. وليس من الجديد أن نقول إن الهوة بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية تتسع سريعاً. كما أن من عجز الأمور أن نعتقد أن الركب قد فاتنا وأن ليس إلى لحاقٍ من سبيل. فلقد شهدنا ونشهد أمام أعيننا دولاً في العالم استطاعت بجهدها وعرقها أن تقضي على تخلف السنين وأن تلحق بالقافلة. وليس ثمة شيء معجز أمام ذهن الإنسان الخلاق وإرادته الحازمة وإيمانه العميق.
وفي الختام، قد يكون القلم قد شطّ، غير أنها نفثة مصدور تفصح عما يختلج في صدوره الكثرة الكاثرة من أبناء أمتنا. وهل التربية، في خاتمة المطاف، غاية في ذاتها أم أنها وسيلة لما هو أعمق وأبعد، نعني بناء الغد العربي الجدير بماضينا، القمين بأن يجعلنا شركاء حقيقيين في بناء حضارة الإنسان الحقة؟
إن الذي يحول دون تقاعس الهمم، من أجل تطوير التربية وسواها، أن نؤمن جميعاً بأن عملنا، في أي موقع كنا، يصب في هدف كبير نسعى إليه، هدف دفع التحديات عن أمتنا، وهي تحديات علمية تكنولوجية في أعماقها، وبناء حضارتنا العربية، من خلال تربية أصيلة وحديثة معاً، ومن خلال الربط الوثيق بين مسيرتنا التربوية ومسيرتنا في سائر ميادين التنمية. إن المعرفة قوة، إنها تعني أن نعرف فنتنبأ فنستطيع، على حد تعبير «أوغست كونت».. فهل نرجو من تعريفنا بواقع التربية في بلادنا وبمشكلاتها ومن تنبؤاتنا بآفاقها أن نعرف فنستطيع؟
باريس – شباط/فبراير 1982
عبد الله عبد الدائم