مترجم عن أوبير
الإصدار: الثامنة – كانون الثاني/ يناير 1996
دار النشر: دار العلم للملايين – بيروت

– تصدير الترجمة 5
– تصدير المؤلف 13
– مقدمة: التربية والبيداغوجيا:
تعريفات أولية 21
صلات البيداغوجيا بعلم الحياة 31
صلات البيداغوجيا بعلم الاجتماع 32
صلات البيداغوجيا بعلم النفس 33
في سبيل فلسفة للتربية 37
مراجع المقدمة 40
– الباب الأول: النقائض التربوية 45
الفصل الأول: التربية في علائقها بالطبيعة 47
1- مفهوم التربية الطبيعية 47
معنى كلمة طبيعة 48
تاريخ فكرة التربية الطبيعية 50
المفاهيم المختلفة للتربية الطبيعية 54
نقد لبناء التربية على الطبيعة 57
الفصل الثاني: التربية في علائقها بالمجتمع 66
1- التربية في وجهة النظر الاجتماعية 66
2- التربية والأجيال الاجتماعية 70
3- نقد لبناء التربية على أساس اجتماعي 73
الفصل الثالث: التربية في علائقها بما هو إنساني 78
1- مشكلة ما هو إنساني في التربية 78
2- الترويض والتأهيل والتربية 84
3- خاتمة: التكامل الإنساني 88
مراجع الباب الأول
– الباب الثاني: الأسس التجريبية للتربية 97
الفصل الأول: المعلومات البيولوجية 99
1- التربية وعلم الحياة 99
2- مشكلة الوراثة 106
3- النمو قبل طور المراهقة 111
4- أزمة البلوغ 121
الفصل الثاني: المعلومات الاجتماعية 126
1- الكائن البيولوجي والكائن الاجتماعي 126
2- بنية الظواهر التربوية ووظيفتها الاجتماعية 129
3- الوظيفة التاريخية لمذاهب التربية 138
4- المشكلة الاجتماعية للتربية المعاصرة 145
الفصل الثالث: المعلومات النفسية 148
1- ملاحظات أولية 148
2- علم نفس الطفل 159
3- علم نفس المراهقة 180
4- المعنى الفلسفي للتطور النفسي 197
5- الأطفال الشواذ 200
6- علم نفس الصلات بين الأفراد والدراسة الاجتماعية لزمر الأطفال 215
الطفل والأسرة 215
الطفل والمدرسة 217
الطفل خارج المدرسة «عصائب الأطفال» 221
زمرة المراهقين 223
مراجع الباب الثاني 225
– الباب الثالث: المبادئ الفلسفية لمذهب في التربية 229
الفصل الأول: هيكل فلسفة في الروح كأساس للتربية 231
1- التربية والروحانية 231
2- المبادئ الأولى لفلسفة روحانية 234
3- الوعي النظري والوعي العملي والوعي الجمالي 244
4- نشأة التجربة وبنيتها 255
5- في التركيب العملي 263
6- مراتب وظائف الوعي كمبدأ للتربية 266
7- المشاركة الروحية كوسيلة للتربية 270
الفصل الثاني: الوعي والطبع: (هيكل لعلم نفس نقدي) 282
1- تعريف الطبع 282
2- الصفات العامة للطبع 288
3- التربية والطبع 313
الفصل الثالث: الوعي والمجتمع (هيكل لعلم اجتماع نقدي) 317
1- الانتقال من التربية الروحية إلى التربية الاجتماعية 317
2- المبدأ المقوّم للمجتمع: التطورات الجمعية والقيم الثقافية 321
3- نظام الرموز الاجتماعية 329
4- الاجتماعي والحضارة 334
5- التربية من وجهة النظر الاجتماعية 342
6- التكيف مع العصر الحاضر 351
7- المجتمع والطبع الاجتماعي والفردي 362
مراجع الباب الثالث 370
– الباب الرابع: عناصر التربية 373
الفصل الأول: تدرج الأهداف التربوية 375
1- تكوين الكائن ووظيفة التربية 375
2- مبادئ التربية 380
3- الصفات العامة للعمل التربوي 384
الفصل الثاني: المواد التربوية: التربية الجسدية 389
1- مبررات التربية الجسدية وأهدافها 389
2- مراتب التربية الجسدية وأشكالها 394
3- التربية الجسدية واللعب والرياضة البدنية 402
4- التربية الجنسية 407
الفصل الثالث: المواد التربوية: التربية الفكرية 414
1- مبادئ التربية الفكرية (الذكاء المتكيف) 414
2- أشكال التربية الفكرية: علوم الطبيعة، تعليم علوم الطبيعة 421
أ- تعليم الرياضيات 421
ب- تعليم العلوم الفيزيائية والبيولوجية 423
ج- تعليم الجغرافيا 429
3- أشكال التربية الفكرية: علوم الإنسان، تعليم العلوم الإنسانية 431
أ- علم التاريخ 431
ب- تعليم العلوم الاجتماعية 441
ج- تعليم علوم اللغات (اللغات والأدب) 445
د- تعليم الفلسفة 457
4- درجات التربية الفكرية 458
الفصل الرابع: المواد التربوية: التربية المهنية 461
1- مشكلة الامتهان 461
2- المبادئ الأساسية للإعداد المهني 466
3- الشرط السابق للإعداد المهني: التوجيه المهني 473
4- أشكال التربية المهنية 477
5- مراتب التربية المهنية 484
الفصل الخامس: المواد التربوية: التربية العملية و الخلقية
(الاجتماعية والسياسية) 487
1- أغراض التربية الخلقية 487
2- صعوبات التربية الخلقية 492
3- مبادئ التربية الخلقية 496
4- مراتب التربية الخلقية 501
5- اكتساب الفضائل الشخصية 503
6- اكتساب العواطف الاجتماعية 507
7- اكتساب العواطف السياسية (التربوية والمدنية) 511
8- اكتساب الإحساس بما هو إنساني
الفصل السادس: المواد التربوية: التربية الجمالية: (الفنية،
والعاطفية، والدينية) 517
1- التربية الجمالية والتركيب الكلي 517
2- التربية الفنية 518
3- التربية العاطفية 528
4- التربية الدينية 536
الفصل السابع: تربية الذكور وتربية الإناث 549
1- مشكلة التربية النسوية 549
2- تكييف التعليم النسوي 556
3- التربية المختلطة 562
مراجع الباب الرابع 571
– الباب الخامس: طرائق التربية 577
الفصل الأول: طرائق التربية البدنية 579
1- اصطفاء الألعاب 579
2- طرائق التربية البدنية 581
3- نتائج عامة حول طرق التربية البدنية 592
4- التعب والإعياء والمراقبة البيولوجية 594
الفصل الثاني: طرق التربية الفكرية 597
1- مشكلة الطرق 597
2- الاهتمامات النفسية والتربية الفكرية 600
3- الطرق التعليمية التلقينية 604
4- الطرق الحدسية الحسية 616
5- الطرق الفعالة: المبدأ 623
6- الطرق الفعالة في التعليم الابتدائي 625
آ- الطرق القائمة على الآليات الفردية للتفكير 626
طريقة منتسوري 626
طريقة دوكرولي 629
طريقة أودمار – لافندل 233
طريقة فرينيه 635
الطرائق الأميركية 636
طريقة دالتون 636
طريقة غاري 640
طريقة وينتكا 641
طريقة المشروعات 643
ب- الطرائق المستندة إلى آليات التكيف مع الحياة الاجتماعية 646
طريقة التعليم المتبادل 647
روّاد طريقة العمل في فرائق 648
القيمة التربوية للعمل في فرائق 650
7- الطرائق الفعالة في مراحل التعليم العليا 652
8- ملاحظات عامة حول استخدام الطرائق الفعالة 656
9- الإطار المدرسي: المدرسة والأدوات المدرسية 658
الإطار: المدرسة 659
الأثاث 660
الوسائل المادية 661
أ- الكتاب 661
ب- الوثائق 661
ج- العرض، السينما، الأسطوانة الموسيقية، المذياع 663
الفصل الثالث: طرائق التربية الخلقية 665
1- الطرائق التلقينية 665
2- الطرائق الحدسية 674
3- الطرائق الفعالة 687
4- النظام المدرسي والجزاء 702
5- تكوين النخبة (النخبة الثقافية والنخبة القائدة) 706
مراجع الباب الخامس 711
– الباب السادس: المدرسة والحياة 721
الفصل الأول: المؤسسات التربوية 723
1- البيئات التربوية 723
العائلة 724
الدولة والمدرسة 730
الكنيسة 735
العمل والمهنة 740
2- تنظيم التعليم العام ومراحله 742
التعليم الابتدائي أو المرحلة الأولى من التعليم 743
التوجيه المدرسي نحو دراسات التعليم الثانوي 745
التعليم الإعدادي الثقافي العام 747
التعليم الفني 754
التعليم العالي 756
3- المناهج وساعات الدراسة والامتحانات 758
المناهج 758
الساعات الدراسية (خطة الدراسة) 761
الامتحانات 764
4- التربية خارج المدرسة (الأعمال السابقة للمدرسة واللاحقة لها) 766
الحركة الكشفية 772
الفصل الثاني: المربي وإعداده 778
1- الموهبة التربوية 778
اختيار مهنة المربي 778
التوجيه المهني في ميدان التعليم 781
عناصر الموهبة التربوية 781
2- الصفات التربوية 787
3- النماذج التربوية 793
4- إعداد المربي 796
أ- الثقافة العامة 796
ب- الثقافة المهنية 800
5- الممارسة العملية للمهنة: الفضائل المهنية 804
الفصل الثالث: التربية المستمرة في الحياة 810
1- التربية عن طريق الحياة 810
2- تربية الفئات الاجتماعية 813
3- التربية العمالية 818
4- تربية الذات 823
مراجع الباب السادس 830
هذا كتاب من وضع المربي الفرنسي «أوبير R. Hubert» من أولى خصائصه أنه يجمع جمعاً موفقاً شاملاً معظم ما يحتاج إليه دارس التربية من علم بأصولها وبفلسفتها وبطرائق التهذيب والتدريب التي تتوسل بها. فالمؤلف بعد أن يضع مقدمة عامة في تعريف التربية وموضوعها، يفرد القسم الأول من كتابه للحديث عن الفلسفات المختلفة التي تتجاذب ميدان التربية، وعلى رأسها الفلسفة الطبيعية والفلسفة الاجتماعية. ثم يعرض للأسس العلمية التي تقوم عليها التربية، من أسس بيولوجية واجتماعية ونفسية؛ ويضمن القسم الثالث رأيه في الأسس الفلسفية التي ينبغي أن تقوم عليها التربية في نظره. وبعد هذا الحديث عن أسس التربية ومقوماتها «أي عن فلسفتها»، ينتقل إلى الحديث عن أنواع التربية، من جسدية وفكرية ومهنية وخلقية وجمالية، مبيناً ما هي أهم المبادئ التي ينبغي أن تحكم كل نوع من هذه الأنواع. ثم يخص الطرائق التي ينبغي أن تتبع في هذه المجالات جميعها بفصول مستقلة، فيتحدث عن طرائق التربية البدنية، وعن طرائق التربية الفكرية، وعن طرائق التربية الخلقية. ويختم كتابه بما بين المدرسة والحياة من وشائج وبما في الحياة العامة خارج المدرسة من مؤسسات تربوية. وعلى الرغم مما قد نقع عليه لدى المؤلف من غلو في فلسفته المثالية التي يجعلها أساساً للبناء التربوي كله، لا نسرف إن قلنا إن كتابه الذي بين يدينا كتاب فذ، قلّ أن نلقى له نظيراً في النتاج التربوي المعاصر. ذلك أن المؤلف يضع فيه فلسفة تربوية كاملة في أُسسها وتطبيقاتها، منطلقاً انطلاقة منطقية منظمة من نظرته وفلسفته في الحياة إلى نظرته وفلسفته في التربية، رابطاً أعمق الربط بين وجهة نظره الفلسفية وفهمه لمصير الإنسان وبين أصداء تلك النظرة وهذا الفهم في مجالات التربية، جاعلاً من التربية بحق مرتعاً حياً للأنظار الفلسفية التي يؤمن بها. وهو في هذا كله مخلص أعمق الإخلاص، في كل خطوة يخطوها، وفي كل بحث جزئي يسوقه، للروح الأساسية التي تغمر فلسفته، روح الإيمان بالمثل العليا الإنسانية وبالقيم الروحية، واعتبار بلوغ هذه القيم المطلب الأساسي المقوّم للوعي الإنساني واتخاذها هدف الأهداف بالتالي في كل عمل تربوي. إنه يؤمن أعمق الإيمان أن هدف التربية التي نقدمها لأي إنسان ينبغي أن يكون الوصول به إلى مستوى الحياة الروحية الأصيلة، مستوى أوبته إلى ذاته وحفاظه على القيم الإنسانية الكبرى، وعلى رأسها الاستقامة والكرم والتقى (ضمن حدود المعاني التي يمنحها لهذه الكلمات). ومن هنا كانت فلسفة المؤلف جديرة بأن تحتل مكانتها بين الفلسفات التربوية الكبرى في العالم وأن تقف جنباً إلى جنب مع الفلسفة التربوية لمثل «ديوي». بل إن مثل هذه الفلسفة التي يأخذ بها «أوبير» هي من الفلسفات القليلة التي تستطيع أن تصمد بجدارة وجهةَ نظر مغايرة لفلسفة المربي الشيكاغي الكبير. ولهذا وجدنا من اللازب أن نضع مثل هذا الكتاب أمام قراء العربية، ليطلعوا من خلاله على فلسفة في التربية كاملة عميقة، ما تزال مغمورة مجهولة إذا قيست بالفلسفات الذائعة. وهي عندنا، في أُسسها العميقة، خير ما يقدم من أجل حرية الإنسان وكماله وسعادته، في عصر تتعرّض فيه إنسانية الإنسان لأكبر محنة. فالتربية الحقة عنده هي «تربية للحرية عن طريق الحرية»، هي أن يتمكن الإنسان من «أن يفهم ويريد ويشعر أنه هو نفسه صانع مصيره، وأنه لا يستطيع الوصول إلى هذا الامتلاك للذات إلا عن طريق التعاون مع سائر الكائنات». والتربية تصل إلى غايتها حين «تكوّن إنساناً وترسي في أعماقه تلك الحاجة إلى أن يملأ مصيره كإنسان خلال حياته كلها». وبذلك وحده يستطيع مثل هذا الإنسان أن يبقى شاباً «وألا يفقد خلال رحلته عبر السنين ثروات الشباب ومعينه». فالشباب الحق – الذي تعمل التربية على تغذيته – هو القدرة على اللحاق بالتغيرات وبالأشكال المختلفة التي تلبسها الحياة، أما «العجز عن ذلك والانغلاق دون الحركة الدائمة التي تجدد الكون، والتمهل عند الأسف العقيم والشكوى المجدبة» فتلك بعينها هي شيخوخة الوعي والنفس. والتربية تعني أولاً وقبل كل شيء رفض مثل هذه الشيخوخة. إن التربية عنده – بتعبير آخر – هي وصاية «هدفها أن تقود الإنسان إلى نقطة لا يحتاج بعدها إلى وصاية». «إنها تكتمل عندما تكتفي بذاتها»، ومن هنا لا تنْزع التربية الصالحة «إلى قد الكائنات قداً واحداً متشابهاً»، بل تساعد كل واحد منهم على أن «يستخلص شخصيته الخاصة وأن يحدد وجهة نظره الخاصة حول مجموع الأشياء وأن يبني طبعه الخاص». والاتساق بين الناس جميعهم «يتكوّن من تباين وجهات نظر كل منهم، لأن كل واحد منهم لا يستطيع أن يحدّد ذاته إلا إذا تكيف تكيفاً متبادلاً مع الآخرين». من خلال مثل هذه النظرة إلى التربية وإلى دورها الحقيقي في تكوين الإنسان الحر السّيد لنفسه الموجه لنموه، المسيطر على ذاته بفضل تشبعه بالقيم الإنسانية، يبحث المؤلف موضوعات التربية جميعها ويعالج مشكلات التربية جميعها. والكتاب من هذه الزاوية لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، من مسائل التربية النظرية والعملية، ولا يهمل أي جانب من جوانب التربية وأي أساس من أسسها وأي طريقة من طرائقها. بل يقف عند هذا كله موقف المطلع الواسع الاطلاع المحيط بكل ما قذفت به الدراسات القديمة والحديثة هنا وهناك من أبحاث واتجاهات وتجارب، ويقف – فوق هذا وقبل هذا – من ذلك كله موقف الناقد الممحص، لا موقف المسجل أو المؤرخ، فيضع كل مذهب حيث ينبغي أن يوضع، مبيناً قيمته وحدوده، ويضع كل طريقة أو تجربة في مقامها الصحيح من جملة الفلسفة التربوية. هذا ما يفعله عندما يتحدث عن تعريف التربية. وهذا ما يفعله عندما يتحدث عن الصلة بين التربية وطبيعة الكائن الفطرية، وبين التربية والمجتمع، وبين التربية «وما هو إنساني». وهذا ما يلجأ إليه عند بحثه في الأسس التجريبية للتربية، من بيولوجية واجتماعية ونفسية. وهذا ما يؤكّده بطبيعة الحال عندما يبين المبادئ الفلسفية لمذهبه التربوي. ومن مثل هذا ينطلق عندما يبحث في عناصر التربية، مبيناً أهداف التربية الجسدية والتربية الفكرية والتربية المهنية والتربية الخلقية والتربية الجمالية، وأصول التربية التي ينبغي أن تقدم لكل من المرأة والرجل. بل هو يصدر عن مثل هذه النظرة الشاملة عندما يتعرض لطرائق التربية العملية نفسها، فيعالج من هذه الزاوية طرائق التربية الجسدية وطرائق التربية الفكرية وطرائق التربية الخلقية. ويتوج هذا كله ببيان الصلة بين المدرسة والحياة ودور التربية خارج إطار المدرسة، وبحديث هام عن المربي وإعداده والموهبة التربوية وشرائطها وقوامها وفضائلها. وإذا كان تصورنا لإعداد المربي هو الذي يفصح عن الفلسفة التربوية والنظرة التربوية التي نأخذ بها، فإعداد المربي عند «أوبير» يفترض أولاً أن يمتلك المرء الموهبة التربوية (وقوامها ثلاث: الحب والشعور بالقيم والشعور بالرسالة)، وأن تتوافر فيه الصفات التربوية اللازمة (من جسدية وفكرية)، وعلى رأسها استقامة الفكر وصدقه، وروح البذل والعطاء، وروح الحبور والمرح خاصة. «فالحبور روح التربية، لأنه يعني الشباب الدائم للوعي». والتربية لا تقوم في قلب الأسى، وليس في وسعنا أن نتصور مربياً قاتماً كارهاً، «كما أننا لا نستطيع أن نتصور رساماً أو نحاتاً يعمل وسط الكراهية والنقمة على الوجوه الفنية التي يصنعها». وإلى جانب الموهبة التربوية والصفات التربوية، تأتي الثقافة المهنية المشتملة على الثقافة النفسية وعلى الثقافة المتعلقة بفن الطفل وعلى التدريب العملي. وهكذا يمزج المؤلف في تصوره لإعداد المربي – شأنه في سائر عناصر تربيته – مزجاً وثيقاً عميقاً بين الفلسفة الروحية المثالية وبين التكوين العملي وبين الشعور بالرسالة والإيمان بالقيم الإنسانية والانطلاق منها وبين التدريب المهني والتكوين الثقافي اللازمين من أجل ذلك الشعور والإيمان. فالموهبة التربوية «هي الشكل الفعّال للسلطة الروحية. وهي تنمو وتشتد عن طريق «الإعداد المهني» وإن كانت لا تُكتسب مطلقاً به وحده. وإذا كانت التربية الحقة لا تقوم «إلا في جو من المثالية الحارة»، فهي لا تقوم أيضاً بدون «المعرفة التجريبية بالطفل والتمرس بجميع الطرائق المجربة في التعليم». هذا شعاع خافت من نظرات المؤلف الثرة المتآخذة، المحلقة في السماء – سماء القيم الإنسانية التي هي مبرر وجود الإنسان – دون أن تفقد متكأها على الأرض وفي الواقع. ذلك أن الطريق المثالي الذي يرسمه لتربية الإنسان طريقٌ مشتق اشتقاقاً عميقاً من واقعه ومن الدراية ببنيته النفسية والجسدية والاجتماعية والخلقية، ومن معرفة متطلبات مصيره الحق و«مقومات وعيه» على حد تعبيره. فالنفوس الإنسانية – في أعمق صبواتها وفي حقيقة منازعها – تجري نحو هذا الهدف النبيل، هدف الاتحاد بالقيم العليا للوجود. وهذا الاتحاد – هذا التركيب الكلي – كما يقول – هذه النظرة المطمئنة إلى مراتب الوجود وإلى ترتيب القيم في الحياة، هي مصير الإنسان، وعلى التربية أن تبلّغه ذلك المصير. ذلك أن غايتها المثلى «انتصار ما هو إنساني». أما ما سوى ذلك فهبوط وعود إلى الحيوانية وتراجع نحو حياة الغاب. فالمسألة الأولى للتربية هي أن نعرف «ما هو الإنسان وما هي منازعه»، وأن نسير في اتجاه تلك المنازع. ومنازع الإنسان الحقة – رغم كل شيء – تظل منازع روحية ومنازع نحو القيم الإنسانية العليا. «ومصير الإنسان أن يكون روحاً»، والروح «هي قانون الكائن في الوجود» وهي «الوحدة بين الذات والسوى من خلال جميع مظاهر الوجود». والكائن الإنساني مدعوٌ لأن يكون وعياً، لأنه روح وعقل. «ومن هنا كانت كل مرحلة من مراحل التطور النفسي مرحلة في طريق السير نحو الروحانية». ومهمة التربية أن تدرك هذا القانون المسيِّر لتطور الحياة النفسية ونموها وأن تعمل في كل مرحلة على تعميق هذا السير التاريخي نحو الوعي المتكامل للوجود. «وفي هذا السير التدريجي نحو النضج، يقدم الكائن نفسه الجهد الأساسي اللازم. أما التربية فليست سوى مساعد ضروري. فجوهر الحياة النفسية وينبوع انطلاقها هما دوماً نزعة الكائن إلى أن يعطي ذاته شكلاً، واضطراره إلى أن يكون من هو». قد يقال إن مثل هذا الهدف الذي يضعه «أوبير» لمصير الإنسان ولتربية الإنسان نهاية مثالية لا يستطيع أي كائن أن يبلغها بتمامها. وهذا صحيح «ولهذا كانت هنالك مراتب ومراقٍ على درب الحرية، كما أن هنالك مراتب في التربية، بل وفي منظومة المؤسسات التربوية». والكائنات «لا تملك في ذاتها القدرة على الرقي إلى أعلى مستوى، ولهذا تعمل التربية على مراحل. ولكن وحدة الوجود ووحدة الحضارة ووحدة الكيان الاجتماعي نفسه تتعرض كلها للخطر إذا لم يضئ جميع معارج الطريق شعاع من الغاية النهائية». ذلك هو قوام الكتاب الذي بين يدينا. إنه الجمع الموفق الفذ بين أعمق الدراية بالأسس الواقعة التجريبية لحياة الإنسان ونمو الإنسان وبين أعمق الإدراك لمنازعه وصبواته الحقة، لمصيره كإنسان يرقى في مراتب الإنسانية وفي سلم القيم الروحية. إن التربية تفقد نجعها وواقعيتها حين تهمل طبيعة الكائن النفسية والجسدية ولا تلم الإلمام العلمي ببنية هذه الطبيعة. ولهذا يلجأ المؤلف إلى دراسة عملية تجريبية كاملة لهذه البنية ومقوماتها في جميع مراحل النمو. غير أن التربية تفقد أهدافها وقدرتها على التوجيه، إذا لم تستخرج من خلال هذه البنية حقيقة صبواتها المثالية، وجوهر مطالبها الروحية، والأسس العميقة لمقومات الوعي الإنساني فيها. ففي قلب تلك الطبيعة النفسية والجسدية للكائن يثوي مصيره والاتجاه الذي يصبو إليه بحكم كونه إنساناً. وعلى التربية أن تبرز هذا الاتجاه وأن تبلغ بالكائن ذلك المصير. والمرء، من وراء هيكله الجسدي والنفسي، وعي له غايته، وعلينا أن نبلِّغه تلك الغاية بأن نكشفها له شيئاً بعد شيء، وبأن نساعده على الرقي في معارجها. فنحن في التربية، لا نروّض ولا نكوّن عادات وآليات نفرضها بالتعليم الدؤوب الصبور – كما يفعل مروضو الوحوش الكاسرة وعارضو الحيوانات العليمة – وإنما نحضّ الفرد على أن يتفتح بنفسه ويحقق ذاته بذاته. ونيسّر له ذلك حين نقدم له الحماية اللازمة والوسائل اللازمة ونضع تحت تصرفه تراث القرون الضخم، وإن كان هو الذي يقدم دوماً الجهد الحاسم. و«هدف العمل التربوي أن نساعد على تحقيق وحدة الكائن الإنساني ضمن المبدأ الذي هو القانون المكوّن لوعيه». وعندما ننطلق على هذا النحو من بنية الكائن ومن اتجاه منازعه ومدلول وعيه وإشارات مصيره، نستطيع أن نساعد هذا الكائن، مرحلة بعد مرحلة، على تحقيق نموه وتقدمه الخاص «إلى أن يصل إلى مستوى لا يتوقف فيه هذا التقدم إلا عليه وحده». فطبيعة الكائن الجسدية والنفسية والمجتمع والتربية وكل شيء أدوات ووسائل، وليست غايات في حدّ ذاتها، والغاية أن نحرر الإنسان ونساعده على بلوغ مصيره الحق، والتحرير. عمل يقوم به الكائن نفسه ويحققه في ذاته. والتربية «ليست طعماً نوقعه على الآخرين وإنما هي عون نقدمه لنموهم. فهي لا تقدم للمرء شيئاً غير موجود فيه من قبل بشكل من الأشكال، ولا تطبع فيه إلا ما يملك الرغبة في امتلاكه. إنها من قبل المربي دعوة ونداء، ومن قبل المتعلم يقظة وانبعاث». إنها مساعدة الكائن على الأوبة إلى ذاته، على امتلاك حريته، عن طريق امتلاك مصيره الحق، مصير الإنسان وقيمه. بيروت في 25/9/1966 عبد الله عبد الدائم تصدِير المؤلِّف عندما أقدمنا على كتابة كتاب في التربية العامة، تراءى لنا أن علينا أن نضطلع بمهمتين اثنتين. الأولى أن نقدم للطلاب، الطلاب الذين يعدون ليكونوا معلمين في التعليم الابتدائي والثانوي والمهني والعالي (وهم الذين خصصناهم بهذا الكتاب قبل غيرهم)، صورة عامة عن حال الموضوعات التربوية في الوقت الحاضر. والثانية أن نعرض أمام عقولهم وأمام عقول سائر الذين تعنيهم المشكلات المتصلة بتكوين الشبيبة، مذهباً منسجماً في التربية على اختلاف مظاهرها ووجوهها.
وقد يبدو هذا الغرضان متناقضين في نظر بعضهم. فاستعراض النظريات والأبحاث والتجارب ينبغي أن يكون موضوعياً لا أثر للرأي الشخصي فيه. بينما المذهب التربوي لا يمكن أن يكون غير شخصي ذاتي. وجوابنا أن هذا التناقض تناقض ظاهري غير حقيقي. ذلك أن اعتناق الباحث مفهوماً عاماً في التربية ومعناها الفلسفي ينبغي ألا يمنعه من أن يؤدي كل نظرية وكل بحث وكل تجربة ما تستحقه من قيمة وما لها من شأن. ونحن نعتقد أن من الممكن التوفيق بين الموضوعية في وصف الوقائع وبين المنازع الشخصية في حل المسائل. لا سيما أننا قانعون أشد ما تكون القناعة أن المذهب التربوي لا ييسر له أن يحظى بالاهتمام وأن يجلب الانتباه إلا إذا جهد أولاً في أن يفهم غيره من المذاهب وإلا إذا حاول أن يضم التيارات الفكرية الكبرى التي تلبي دون شك الصبوات العميقة لعالمنا الحاضر. وأخيراً، ليس في وسعنا أن نستغني عن مثل هذا المبدأ الناظم لتفكيرنا، ولا يمكن أن يوجد مرب لا يحمل، ولو ضمنياً، نظرة عامة عن الإنسان والوجود.
إن العناية بالأمور التربوية لم تكن في عصر من العصور كما هي عليه اليوم شمولاً ونشاطاً. ولم تبلغ المؤلفات في هذا الباب يوماً ما بلغته الآن، ولم يقدَّر لها قط ما قُدّر لها في الآونة الأخيرة من تنوع وألوان. ولا نكاد نعثر على فرضية من تلك الفرضيات التي كانت في الماضي معزولة في مجال النظريات المجردة إلا ونلقى لها اليوم مجالاً للتطبيق في مدرسة من المدارس. وجميع شعوب العالم، لا شعوب أوروبا وحدها، تسهم في هذه الحركة التربوية. وبعضها قد قلب جهاز مؤسساته المدرسية رأساً على عقب، بتأثير الثورات السياسية التي قامت فيه. وحتى الصين، ذلك البلد المحافظ، قد افتتح منذ سنوات قليلة مدارس تجريبية. فكأن التقاليد التي عاشت عليها الإنسانية خلال آلاف السنين قد وضعت موضع التساؤل والنظر.
وهذه الثورة التربوية التي وصفت بما وصفت به الثورة التي قام بها «كنت Kant» في مجال الفلسفة ونظرية المعرفة منذ قرن ونصف، فقيل عنها أنها «ثورة كوبرنيكية»، لم تلج فرنسا بابها إلا مؤخراً ولم تقبل عليها إلا وجلة على استحياء. فهل يرجع هذا إلى ضرب من النزعة المحافظة في مجال الفكر والأخلاق؟ أم مرده إلى سآمة مفرطة؟ أم هو نتيجة المركزية السياسية التي نجدها في جميع ميادين النشاط التي تستأثر بها الدولة؟ أياً كان الأمر، فمما يشده النظر أنها أدخلت على طرائق تعليمها وروح ذلك التعليم بذور تجديدات لقيتها شعوب أخرى أكثر منها خضوعاً لعادات السنين وتقاليد القرن فأقبلت عليها في فضول أكبر وتقبلتها بقبول أحسن.
فهذه المحدثات من المنازع التربوية لم تبدأ بالتسلل إلى جهازنا التربوي إلا منذ زمن حديث جداً، ثم جرى على أثرها إصلاح في التعليم خضع في اتجاهه إلى غايات سياسية لا تربوية، فقضى بذلك على تلك التجديدات الوليدة وقطع الصلة بها.
فالمشكلة إذن تظل قائمة في بلادنا، وهي تتطلب حلاً يلائم الحاجات الحقيقية لشعب مزعزع حتى أعماق بنيانه المادي والمعنوي، ولكن الآلام المفرطة التي عاناها ردته في الوقت نفسه إلى أن يعي مصيره الروحي وعياً عميقاً. إن فرنسة هي الابنة الكبرى للنزعة الإنسانية – النزعة الإنسانية اليونانية اللاتينية التي عرفتها العصور القديمة، والنزعة الإنسانية المسيحية التي أتت بها العصور الوسطى، والنزعة الإنسانية العلمية التي سادت في العصور الحديثة -. فهي إن تنكرت لهذه النزعة الإنسانية الأصيلة أنكرت ذاتها. وعليها أن تستوحي من هذه النزعة الإنسانية أي نظرية في التربية تود أن تجعل منها أساس إصلاحاتها.
ولعل من باب الادعاء أن نحاول رسم مثل هذه النظرية المستوحاة من تلك النزعة: فمثل هذه الدعوى تعني دعوى أخرى عريضة وهي أننا نعلم كل شيء عن الإنسان وعن طبيعته وعن رسالته الإنسانية، ما دمنا نأخذ على عاتقنا بيان طرق تكوينه. بل لعل في مثل هذا العمل تهوراً ما دمنا نقوم به في عصر تخربه العواصف وفي مجتمع لا يدري بعد ماذا سيكون في الغد بل ماذا يريد أن يكون. ولكن أين السبيل مع ذلك إلى التخلص من مثل هذا المطلب الصارم الأساسي؟
إن كتابة كتاب في التربية لا يمكن أن يكون الهدف منها إذن أن نعمل على تكوين علاّمات أو متفقّهين في مادة تاريخ النظريات والطرق التربوية. فما عسى أن يفيد مربو المستقبل من مثل ذلك، وما عساهم يجنون عن هذه السبيل من فكرة واضحة عن مهمتهم، وشعور حاد بواجبهم وإرادة عازمة على تحقيق ذلك الواجب؟ إن المهم ليس هذا؛ وفي مجال التربية قبل أي مجال لا تعني إجادة العلم إجادة التفكير. نعم إن للتربية ماضيها الذي ينبغي أن نعرف مراحله الكبرى، ولكن شريطة أن نتخذ منه مادة للتفكير والتأمل. وإن لها وسائلها الفنية التي ينبغي أن نتقنها، ولكن هذه الوسائل الفنية تظل، شأن سائر الوسائل الفنية، خاضعة للغايات والأهداف البعيدة. والنقص الذي يشكو منه عدد كبير من محاولات التربية الحديثة يرجع إلى تشتتها وتبعثرها وإلى أنها تتخذ غالباً من مجرد الوصف والتعداد غاية وهدفاً. إن علينا إذن أن ندرك الغايات أولاً وأن نوضحها. وكتاب في التربية هو في حد ذاته عمل تربوي.
يقول «بولس دي جاردان Paul Desjardins» في أحد كتبه: «إن مصلحي التربية التي قدرت لنا ملاحظتهم قد اكتشفوا الحقيقة حول جميع المسائل التفصيلية تقريباً: سواء حول تربية الحواس وعملية الحكم في السنوات الأولى من الطفولة؛
أو حول الإفادة من العمل اليدوي؛ أو حول الرياضة والدربة العقلية؛ أو حول أسلوب تعليم اللغات أو الفيزياء أو الرسم أو الموسيقى الصوتية إلى غير تلك من المكتشفات الحديثة المعاصرة والمتباينة التي ترجع في الواقع وبعد إنعام النظر إلى مركز وأصل واحد. غير أن هذا المركز الواحد الذي يشع منه كل شيء لا يبدو واضحاً لدى أي واحد منهم وهو الذي يعوز المدرسة التي تصاغ وفق الأسلوب الفرنسي الحق».
ذلك أن هذا المركز الذي يتحدث عنه هذا الكاتب هو الإنسان. وما نشك في أنه يقرنا على أن نضيف إلى قوله القول بأن المدرسة التي تصاغ وفق الأسلوب الفرنسي هي تلك المدرسة التي تعنى بتعليم الإنسان وخلق الإنسان.
وكوننا نضع نصب عينينا المدرسة ذات التراث الإنساني الفرنسي التقليدي، يفرض علينا أن نتخلص من مشاغل الساعة الحاضرة مهما تكن ثقيلة ملحفة. فمعالجة أمور التربية تعني أن نفكر في المستقبل ومن أجل المستقبل، بل لعلها تعني أن نفكر تفكيراً فوق الزمن وخارج الزمن، تفكيراً في المطلق، ما دمنا نقر أن التربية تستمد أساسها مما هو حقيقة لدى الإنسان. وليس ثمة مذهب تربوي، من أيام أفلاطون حتى أيام مونتيني Montaigne ومن أيام مونتيني حتى أيام روسو، إلا وأعلن أن رسالة الإنسان هي تحقيق ماهيته. نعم إن المهمات الخاصة، المهنية أو الاجتماعية، التي يخضع لها هذا الإنسان، والوسائل الفنية التي تصطنع لحمله على أداء تلك المهمات، يمكن أن تتغير بتغيرات الأزمان والأمكنة، وبتغير حال المعارف واتجاه الحاجات. غير أن ثمة شيئاً لا تؤثر فيه تلك التغيرات جميعها، ألا وهو واجبه في أن يغدو ما هو، أي أن يحقق ماهيته الإنسانية.
وهكذا نرى أن التربية إذن جزء من الفلسفة، بل هي نقطة نهايتها وتمامها. والفلسفة نفسها هي في حد ذاتها تربية. فمحبة الحكمة هي بالتعريف شيء لا يمكن أن يكون أنانياً مقصوراً على صاحبه، وكل فلسفة تَنـزع إلى الانتشار، إلى أن تكون ضرباً من الدعاوة الذائعة. إذ من ضعف الحجا أن «تكون يد المرء ملأى بالحقائق وأن يمتنع عن فتحها». وما عسى أن تكون حقيقة لا يود صاحبها نقلها إلى الآخرين ونشرها؟ إن المذهب التربوي يعبر عما يراه صاحبه في المثل الأعلى الإنساني، وقد يعبر عما كان هو، ويغلب أن يعبر عما كان يرجى أن يكون هو، وهو يعبر حتماً عما يرجو أن يكون عليه غيره من الناس. إنه يفصح عن تصوره للوجود، ما دام يظهر الاتجاه الذي يأمل أن ينتشر الوجود فيه. وهو بهذا يؤكد القول بأن الفلسفة نفسها ضرب من الشهادة، أو بتعبير أجود ضرب من الاعتراف، يبوح فيها الكاتب بخير ما عنده، لا بشر ما عنده كما يفعل المعترفون في الكنائس.
وإذا أردنا التخصيص، قلنا إن التربية التي نتحدث عنها جزء لا يتجزأ من الأخلاق، إنها امتداد مقبل للعمل الأخلاقي الحاضر، إنها تهيئة للعمل الخلقي في المستقبل. ومحال على من يملك وجهة نظر شخصية في الأخلاق ألا يربط بها مفاهيمه التربوية. ولهذا فلا عجب أن نقدم هذا الكتاب كمتمم عضوي لكتابنا المسمى «مذهبنا في الأخلاق».
إن ما قررناه في السطور الماضيات هو الشيء الجوهري. وما سواه تابع وملحق:
فلئن كانت أفكارنا تتجه أولاً شطر فكرة المدرسة المشتركة العامة، فذلك لأن أي نظام تربوي آخر لا يمكن أن يقدر له اليوم تطبيق واسع بعض الشيء؛ غير أن هذا لا يعني في نظرنا أن المدرسة المشتركة ينبغي أن تهجر الاهتمام السامي بما هو إنساني، في سبيل غايات اجتماعية محضة أو أهداف خاصة. وههنا في الواقع تثوي عقدة مأساة التربية المعاصرة. إذ ما دامت المدرسة المشتركة العامة هي الشيء المتصل بالمجتمع العام، كان من الصعب على هذا المجتمع أن يقبل أن تهدف هذه المدرسة إلى غايات ليست اجتماعية خالصة. ولكن أي مجتمع يبلغ به إعجابه بذاته وبوظيفته إلى أن يدعي أن خير أعضائه هم الذين يصلون تماماً إلى كمال الكرامة الإنسانية؟
كذلك إن كنا نشير في كتابنا هذا إشارات كثيرة إلى تاريخ الحوادث والمذاهب التربوية فذلك لأن سيطرة الاهتمام الفلسفي لا يمنع أن نوضح الفكر بالأمثلة المأخوذة من الماضي، ولأنه لا يمكن إلا أن يوجد استمرار في المثل الأعلى خلال الأفكار الإنسانية المتتالية على مر العصور، وذلك الاستمرار ينبغي أن يستخلص، وأن ييسر لنا بضرب من رجع الصدى أن نرى الاتفاق العميق بين جميع أولئك الذين عنوا بمسائل الشبيبة، أي بمسائل المستقبل.
وأخيراً إن انتقلنا في كتابنا من عرض المذهب التربوي إلى تفحص العناصر التي يتألف منها ذلك المذهب، و الطرائق التي تجعله يعمل ويتحقق والمؤسسات التي يستلزمها، فذلك لأن من المفيد أن نبين أن المذهب خصيب، وأن الأهداف بعد أن توضع، تتبعها التطبيقات بيسر أكبر وتغدو تطبيقاتها هذه أكثر انسجاماً واتساقاً.
غير أننا في هذه النقاط التي ذكرناها جميعها نمتنع عن أن ندخل في التفصيلات التي هي من عمل الفنيين والأخصائيين، لا من عمل الفلاسفة. ورغبتنا في أن يكون عملنا كاملاً لا تذهب بنا إلى حد الرغبة في أن نقول كل شيء، وأن نجمع المعلومات والمراجع ونكدسها تكديساً لا نهاية له. وحسبنا ونحن نعنى بالحديث عن الإنسان،
ألا ننسى شيئاً مما يكوّن الإنسان.
وأياً كان الأمر، فليس من فضول القول أن نذكر بالمبدأ الذي يصدر عنه كل صفاء الفكر، في عصر طغت فيه مشاغل الساعة الحاضرة على كثير من العقول، وسيطرت عليها الحوادث الآنية السريعة، وعصفت بها زوبعة الأهواء الاجتماعية العامة، وسيقت إلى أن تسير في دروب لا تدري مؤداها، فاكتفت بالكلام واغتذت بصيغ تحسبها جديدة لأنها تقدم صارخة، وأخذت تحكم على متانة الدرع الذي تحبس نفسها ضمنه استناداً إلى صليل أجزائه.
إن أكبر خدمة يقدمها رجال الفكر إلى عصر تعيس ألا يقولوا له غير الأشياء التي قبلوها على عاتقهم لأنهم أطالوا الرؤية فيها وعملوا مديداً على إنضاجها. وههنا تحتفظ القاعدة الديكارتية القديمة بكامل قيمتها، تلك القاعدة التي توصي ألا نقبل بصحة شيء ما لم يتبين لنا بالبداهة أنه كذلك. ونأمل أن تحفظنا هذه القاعدة، نحن أيضاً، من كل تعجل واستباق. وقد تكون هذه القاعدة أيضاً أساساً متيناً لفلسفة في التربية نود وضعها.
ولابد لنا في نهاية هذا التصدير إلا أن نقر بالجميل فنذكر ما يدين به هذا المؤلف إلى جزئي الموسوعة الفرنسية: الجزء الخامس عشر المخصص للتربية والتعليم (والمنشور تحت إشراف السيد بوغلي Bouglé) والجزء الثامن المخصص للحياة النفسية (والمنشور تحت إشراف السيد هنري فالون H. Wallon)؛ وما يدين به كذلك إلى ذلك العمل التجريبي والعملي الذي قامت به قبل الحرب «جماعة الشمال من أصدقاء المدرسة الحديثة». ولقد كانت المعلومات والمصادر خاصة التي استقيناها من جزئي الموسوعة، ثم الإيحاءات الحسية العملية التي تلقيناها من العمل التجريبي المذكور، عوناً كبيراً لنا في مهمتنا.
تصدير الترجمة هذا كتاب من وضع المربي الفرنسي «أوبير R. Hubert» من أولى خصائصه أنه يجمع جمعاً موفقاً شاملاً معظم ما يحتاج إليه دارس التربية من علم بأصولها وبفلسفتها وبطرائق التهذيب والتدريب التي تتوسل بها. فالمؤلف بعد أن يضع مقدمة عامة في تعريف التربية وموضوعها، يفرد القسم الأول من كتابه للحديث عن الفلسفات المختلفة التي تتجاذب ميدان التربية، وعلى رأسها الفلسفة الطبيعية والفلسفة الاجتماعية. ثم يعرض للأسس العلمية التي تقوم عليها التربية، من أسس بيولوجية واجتماعية ونفسية؛ ويضمن القسم الثالث رأيه في الأسس الفلسفية التي ينبغي أن تقوم عليها التربية في نظره. وبعد هذا الحديث عن أسس التربية ومقوماتها «أي عن فلسفتها»، ينتقل إلى الحديث عن أنواع التربية، من جسدية وفكرية ومهنية وخلقية وجمالية، مبيناً ما هي أهم المبادئ التي ينبغي أن تحكم كل نوع من هذه الأنواع. ثم يخص الطرائق التي ينبغي أن تتبع في هذه المجالات جميعها بفصول مستقلة، فيتحدث عن طرائق التربية البدنية، وعن طرائق التربية الفكرية، وعن طرائق التربية الخلقية. ويختم كتابه بما بين المدرسة والحياة من وشائج وبما في الحياة العامة خارج المدرسة من مؤسسات تربوية. وعلى الرغم مما قد نقع عليه لدى المؤلف من غلو في فلسفته المثالية التي يجعلها أساساً للبناء التربوي كله، لا نسرف إن قلنا إن كتابه الذي بين يدينا كتاب فذ، قلّ أن نلقى له نظيراً في النتاج التربوي المعاصر. ذلك أن المؤلف يضع فيه فلسفة تربوية كاملة في أُسسها وتطبيقاتها، منطلقاً انطلاقة منطقية منظمة من نظرته وفلسفته في الحياة إلى نظرته وفلسفته في التربية، رابطاً أعمق الربط بين وجهة نظره الفلسفية وفهمه لمصير الإنسان وبين أصداء تلك النظرة وهذا الفهم في مجالات التربية، جاعلاً من التربية بحق مرتعاً حياً للأنظار الفلسفية التي يؤمن بها. وهو في هذا كله مخلص أعمق الإخلاص، في كل خطوة يخطوها، وفي كل بحث جزئي يسوقه، للروح الأساسية التي تغمر فلسفته، روح الإيمان بالمثل العليا الإنسانية وبالقيم الروحية، واعتبار بلوغ هذه القيم المطلب الأساسي المقوّم للوعي الإنساني واتخاذها هدف الأهداف بالتالي في كل عمل تربوي. إنه يؤمن أعمق الإيمان أن هدف التربية التي نقدمها لأي إنسان ينبغي أن يكون الوصول به إلى مستوى الحياة الروحية الأصيلة، مستوى أوبته إلى ذاته وحفاظه على القيم الإنسانية الكبرى، وعلى رأسها الاستقامة والكرم والتقى (ضمن حدود المعاني التي يمنحها لهذه الكلمات). ومن هنا كانت فلسفة المؤلف جديرة بأن تحتل مكانتها بين الفلسفات التربوية الكبرى في العالم وأن تقف جنباً إلى جنب مع الفلسفة التربوية لمثل «ديوي». بل إن مثل هذه الفلسفة التي يأخذ بها «أوبير» هي من الفلسفات القليلة التي تستطيع أن تصمد بجدارة وجهةَ نظر مغايرة لفلسفة المربي الشيكاغي الكبير. ولهذا وجدنا من اللازب أن نضع مثل هذا الكتاب أمام قراء العربية، ليطلعوا من خلاله على فلسفة في التربية كاملة عميقة، ما تزال مغمورة مجهولة إذا قيست بالفلسفات الذائعة. وهي عندنا، في أُسسها العميقة، خير ما يقدم من أجل حرية الإنسان وكماله وسعادته، في عصر تتعرّض فيه إنسانية الإنسان لأكبر محنة. فالتربية الحقة عنده هي «تربية للحرية عن طريق الحرية»، هي أن يتمكن الإنسان من «أن يفهم ويريد ويشعر أنه هو نفسه صانع مصيره، وأنه لا يستطيع الوصول إلى هذا الامتلاك للذات إلا عن طريق التعاون مع سائر الكائنات». والتربية تصل إلى غايتها حين «تكوّن إنساناً وترسي في أعماقه تلك الحاجة إلى أن يملأ مصيره كإنسان خلال حياته كلها». وبذلك وحده يستطيع مثل هذا الإنسان أن يبقى شاباً «وألا يفقد خلال رحلته عبر السنين ثروات الشباب ومعينه». فالشباب الحق – الذي تعمل التربية على تغذيته – هو القدرة على اللحاق بالتغيرات وبالأشكال المختلفة التي تلبسها الحياة، أما «العجز عن ذلك والانغلاق دون الحركة الدائمة التي تجدد الكون، والتمهل عند الأسف العقيم والشكوى المجدبة» فتلك بعينها هي شيخوخة الوعي والنفس. والتربية تعني أولاً وقبل كل شيء رفض مثل هذه الشيخوخة. إن التربية عنده – بتعبير آخر – هي وصاية «هدفها أن تقود الإنسان إلى نقطة لا يحتاج بعدها إلى وصاية». «إنها تكتمل عندما تكتفي بذاتها»، ومن هنا لا تنْزع التربية الصالحة «إلى قد الكائنات قداً واحداً متشابهاً»، بل تساعد كل واحد منهم على أن «يستخلص شخصيته الخاصة وأن يحدد وجهة نظره الخاصة حول مجموع الأشياء وأن يبني طبعه الخاص». والاتساق بين الناس جميعهم «يتكوّن من تباين وجهات نظر كل منهم، لأن كل واحد منهم لا يستطيع أن يحدّد ذاته إلا إذا تكيف تكيفاً متبادلاً مع الآخرين». من خلال مثل هذه النظرة إلى التربية وإلى دورها الحقيقي في تكوين الإنسان الحر السّيد لنفسه الموجه لنموه، المسيطر على ذاته بفضل تشبعه بالقيم الإنسانية، يبحث المؤلف موضوعات التربية جميعها ويعالج مشكلات التربية جميعها. والكتاب من هذه الزاوية لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، من مسائل التربية النظرية والعملية، ولا يهمل أي جانب من جوانب التربية وأي أساس من أسسها وأي طريقة من طرائقها. بل يقف عند هذا كله موقف المطلع الواسع الاطلاع المحيط بكل ما قذفت به الدراسات القديمة والحديثة هنا وهناك من أبحاث واتجاهات وتجارب، ويقف – فوق هذا وقبل هذا – من ذلك كله موقف الناقد الممحص، لا موقف المسجل أو المؤرخ، فيضع كل مذهب حيث ينبغي أن يوضع، مبيناً قيمته وحدوده، ويضع كل طريقة أو تجربة في مقامها الصحيح من جملة الفلسفة التربوية. هذا ما يفعله عندما يتحدث عن تعريف التربية. وهذا ما يفعله عندما يتحدث عن الصلة بين التربية وطبيعة الكائن الفطرية، وبين التربية والمجتمع، وبين التربية «وما هو إنساني». وهذا ما يلجأ إليه عند بحثه في الأسس التجريبية للتربية، من بيولوجية واجتماعية ونفسية. وهذا ما يؤكّده بطبيعة الحال عندما يبين المبادئ الفلسفية لمذهبه التربوي. ومن مثل هذا ينطلق عندما يبحث في عناصر التربية، مبيناً أهداف التربية الجسدية والتربية الفكرية والتربية المهنية والتربية الخلقية والتربية الجمالية، وأصول التربية التي ينبغي أن تقدم لكل من المرأة والرجل. بل هو يصدر عن مثل هذه النظرة الشاملة عندما يتعرض لطرائق التربية العملية نفسها، فيعالج من هذه الزاوية طرائق التربية الجسدية وطرائق التربية الفكرية وطرائق التربية الخلقية. ويتوج هذا كله ببيان الصلة بين المدرسة والحياة ودور التربية خارج إطار المدرسة، وبحديث هام عن المربي وإعداده والموهبة التربوية وشرائطها وقوامها وفضائلها. وإذا كان تصورنا لإعداد المربي هو الذي يفصح عن الفلسفة التربوية والنظرة التربوية التي نأخذ بها، فإعداد المربي عند «أوبير» يفترض أولاً أن يمتلك المرء الموهبة التربوية (وقوامها ثلاث: الحب والشعور بالقيم والشعور بالرسالة)، وأن تتوافر فيه الصفات التربوية اللازمة (من جسدية وفكرية)، وعلى رأسها استقامة الفكر وصدقه، وروح البذل والعطاء، وروح الحبور والمرح خاصة. «فالحبور روح التربية، لأنه يعني الشباب الدائم للوعي». والتربية لا تقوم في قلب الأسى، وليس في وسعنا أن نتصور مربياً قاتماً كارهاً، «كما أننا لا نستطيع أن نتصور رساماً أو نحاتاً يعمل وسط الكراهية والنقمة على الوجوه الفنية التي يصنعها». وإلى جانب الموهبة التربوية والصفات التربوية، تأتي الثقافة المهنية المشتملة على الثقافة النفسية وعلى الثقافة المتعلقة بفن الطفل وعلى التدريب العملي. وهكذا يمزج المؤلف في تصوره لإعداد المربي – شأنه في سائر عناصر تربيته – مزجاً وثيقاً عميقاً بين الفلسفة الروحية المثالية وبين التكوين العملي وبين الشعور بالرسالة والإيمان بالقيم الإنسانية والانطلاق منها وبين التدريب المهني والتكوين الثقافي اللازمين من أجل ذلك الشعور والإيمان. فالموهبة التربوية «هي الشكل الفعّال للسلطة الروحية. وهي تنمو وتشتد عن طريق «الإعداد المهني» وإن كانت لا تُكتسب مطلقاً به وحده. وإذا كانت التربية الحقة لا تقوم «إلا في جو من المثالية الحارة»، فهي لا تقوم أيضاً بدون «المعرفة التجريبية بالطفل والتمرس بجميع الطرائق المجربة في التعليم». هذا شعاع خافت من نظرات المؤلف الثرة المتآخذة، المحلقة في السماء – سماء القيم الإنسانية التي هي مبرر وجود الإنسان – دون أن تفقد متكأها على الأرض وفي الواقع. ذلك أن الطريق المثالي الذي يرسمه لتربية الإنسان طريقٌ مشتق اشتقاقاً عميقاً من واقعه ومن الدراية ببنيته النفسية والجسدية والاجتماعية والخلقية، ومن معرفة متطلبات مصيره الحق و«مقومات وعيه» على حد تعبيره. فالنفوس الإنسانية – في أعمق صبواتها وفي حقيقة منازعها – تجري نحو هذا الهدف النبيل، هدف الاتحاد بالقيم العليا للوجود. وهذا الاتحاد – هذا التركيب الكلي – كما يقول – هذه النظرة المطمئنة إلى مراتب الوجود وإلى ترتيب القيم في الحياة، هي مصير الإنسان، وعلى التربية أن تبلّغه ذلك المصير. ذلك أن غايتها المثلى «انتصار ما هو إنساني». أما ما سوى ذلك فهبوط وعود إلى الحيوانية وتراجع نحو حياة الغاب. فالمسألة الأولى للتربية هي أن نعرف «ما هو الإنسان وما هي منازعه»، وأن نسير في اتجاه تلك المنازع. ومنازع الإنسان الحقة – رغم كل شيء – تظل منازع روحية ومنازع نحو القيم الإنسانية العليا. «ومصير الإنسان أن يكون روحاً»، والروح «هي قانون الكائن في الوجود» وهي «الوحدة بين الذات والسوى من خلال جميع مظاهر الوجود». والكائن الإنساني مدعوٌ لأن يكون وعياً، لأنه روح وعقل. «ومن هنا كانت كل مرحلة من مراحل التطور النفسي مرحلة في طريق السير نحو الروحانية». ومهمة التربية أن تدرك هذا القانون المسيِّر لتطور الحياة النفسية ونموها وأن تعمل في كل مرحلة على تعميق هذا السير التاريخي نحو الوعي المتكامل للوجود. «وفي هذا السير التدريجي نحو النضج، يقدم الكائن نفسه الجهد الأساسي اللازم. أما التربية فليست سوى مساعد ضروري. فجوهر الحياة النفسية وينبوع انطلاقها هما دوماً نزعة الكائن إلى أن يعطي ذاته شكلاً، واضطراره إلى أن يكون من هو». قد يقال إن مثل هذا الهدف الذي يضعه «أوبير» لمصير الإنسان ولتربية الإنسان نهاية مثالية لا يستطيع أي كائن أن يبلغها بتمامها. وهذا صحيح «ولهذا كانت هنالك مراتب ومراقٍ على درب الحرية، كما أن هنالك مراتب في التربية، بل وفي منظومة المؤسسات التربوية». والكائنات «لا تملك في ذاتها القدرة على الرقي إلى أعلى مستوى، ولهذا تعمل التربية على مراحل. ولكن وحدة الوجود ووحدة الحضارة ووحدة الكيان الاجتماعي نفسه تتعرض كلها للخطر إذا لم يضئ جميع معارج الطريق شعاع من الغاية النهائية». ذلك هو قوام الكتاب الذي بين يدينا. إنه الجمع الموفق الفذ بين أعمق الدراية بالأسس الواقعة التجريبية لحياة الإنسان ونمو الإنسان وبين أعمق الإدراك لمنازعه وصبواته الحقة، لمصيره كإنسان يرقى في مراتب الإنسانية وفي سلم القيم الروحية. إن التربية تفقد نجعها وواقعيتها حين تهمل طبيعة الكائن النفسية والجسدية ولا تلم الإلمام العلمي ببنية هذه الطبيعة. ولهذا يلجأ المؤلف إلى دراسة عملية تجريبية كاملة لهذه البنية ومقوماتها في جميع مراحل النمو. غير أن التربية تفقد أهدافها وقدرتها على التوجيه، إذا لم تستخرج من خلال هذه البنية حقيقة صبواتها المثالية، وجوهر مطالبها الروحية، والأسس العميقة لمقومات الوعي الإنساني فيها. ففي قلب تلك الطبيعة النفسية والجسدية للكائن يثوي مصيره والاتجاه الذي يصبو إليه بحكم كونه إنساناً. وعلى التربية أن تبرز هذا الاتجاه وأن تبلغ بالكائن ذلك المصير. والمرء، من وراء هيكله الجسدي والنفسي، وعي له غايته، وعلينا أن نبلِّغه تلك الغاية بأن نكشفها له شيئاً بعد شيء، وبأن نساعده على الرقي في معارجها. فنحن في التربية، لا نروّض ولا نكوّن عادات وآليات نفرضها بالتعليم الدؤوب الصبور – كما يفعل مروضو الوحوش الكاسرة وعارضو الحيوانات العليمة – وإنما نحضّ الفرد على أن يتفتح بنفسه ويحقق ذاته بذاته. ونيسّر له ذلك حين نقدم له الحماية اللازمة والوسائل اللازمة ونضع تحت تصرفه تراث القرون الضخم، وإن كان هو الذي يقدم دوماً الجهد الحاسم. و«هدف العمل التربوي أن نساعد على تحقيق وحدة الكائن الإنساني ضمن المبدأ الذي هو القانون المكوّن لوعيه». وعندما ننطلق على هذا النحو من بنية الكائن ومن اتجاه منازعه ومدلول وعيه وإشارات مصيره، نستطيع أن نساعد هذا الكائن، مرحلة بعد مرحلة، على تحقيق نموه وتقدمه الخاص «إلى أن يصل إلى مستوى لا يتوقف فيه هذا التقدم إلا عليه وحده». فطبيعة الكائن الجسدية والنفسية والمجتمع والتربية وكل شيء أدوات ووسائل، وليست غايات في حدّ ذاتها، والغاية أن نحرر الإنسان ونساعده على بلوغ مصيره الحق، والتحرير. عمل يقوم به الكائن نفسه ويحققه في ذاته. والتربية «ليست طعماً نوقعه على الآخرين وإنما هي عون نقدمه لنموهم. فهي لا تقدم للمرء شيئاً غير موجود فيه من قبل بشكل من الأشكال، ولا تطبع فيه إلا ما يملك الرغبة في امتلاكه. إنها من قبل المربي دعوة ونداء، ومن قبل المتعلم يقظة وانبعاث». إنها مساعدة الكائن على الأوبة إلى ذاته، على امتلاك حريته، عن طريق امتلاك مصيره الحق، مصير الإنسان وقيمه. بيروت في 25/9/1966 عبد الله عبد الدائم