الإصدار: الخامسة – شباط/ فبراير 1988

دار النشر: دار العلم للملايين – بيروت

هذا الكتاب

* إن الوضع الجديد الذي يواجهه التعليم، والذي يشتد خطراً سنة بعد سنة، لابد له من «ثورة تكنولوجية» تربوية، تحاول أن تستخدم الابتكار والتجديد ونتائج التطور العلمي والفني لتضعها في خدمة المشكلات التربوية الراهنة.
* إن التربية مدعوة إلى تحقيق ثورتها التكنولوجية، وذلك بتجديد جميع الوسائل وجميع العناصر التي تعمل عملها في التعليم، كالمناهج والطرائق والوسائل التعليمية والكتب وفرق الطلاب، وكل ما يدخل في العملية التربوية. ففي هذه المجالات جميعها، تشتد الحاجة إلى انقلابات أساسية، وتغييرات جوهرية هي قوام الثورة التربوية المنشودة.
* وإذا كانت هذه الثورة التربوية لازمة في كل عصر ومكان، فهي في البلدان العربية السائرة في طريق النمو، ألزم وأوجب، لأن المشكلات التعليمية فيها أشد وطأة. ولابد لنا من أن نلتفت صوب البحث العلمي فهو وحده القمين بأن يخرج بلادنا من الدور الفاسد الذي تدور فيه.
* إن هذا الكتاب محاولة جدية تحث الباحثين والمعلمين والدارسين على روح البحث العلمي، وتوقظهم لهموم التجريب ومشاغل التنقيب. وإذا كانت الروح العلمية هي التي ينبغي أن تكون عدة الأمة العربية وسلاحها ضد كل ما يهدد وجودها، فالبحث العلمي هو الذي يخلقها ويكونها.
* إن دار العلم للملايين إذ تقدم هذا الكتاب النفيس، لتفخر بإسهامها في تكوين جيل عربي جديد يعب من روح العلم ويتذوق ما فيه من إبداع، ليتمرس بالابتكار والخلق في شتى ميادين الحياة.

تصدير 5
القسم الأول
موضوع التربية التجريبية وطرقها وحدودها.
البحث التربوي وأساليبه 15
الفصل الأول: ما هي التربية التجريبية 17
ما هي التربية التجريبية 17
1- التربية التجريبية وعلم النفس التجريبي 20
2- التربية التجريبية والروائز 22
3- التربية التجريبية والعلوم البيولوجية والطبية 24
4- التربية التجريبية والتربية الحديثة 25
5- التربية التجريبية وبعض المدارس 27
6- التربية التجريبية والبحث التربوي 28
7- موضوع التربية التجريبية وطريقتها 29
الفصل الثاني: حدود التربية التجريبية وصعوباتها 35
1- الصعوبات المعنوية 35
2- الصعوبات الفنية 40
الفصل الثالث: وسائل البحث التجريبي في التربية 55
أ- نظرة تاريخية 56
ب- وسائل البحث التجريبي 60
1- طريقة الزمرة الوحيدة 61
2- طريقة الزمر المتوازية أو المتعادلة 63
3- طريقة تدوير العوامل 63
د- وسائل التجريب غير المباشر 65
1- الاستقصاءات 65
2- المسح الاجتماعي 72
3- الوسائل العيادية في البحث التجريبي 73
4- المقابلة الشخصية 77
5- طريقة «البوادر البارزة» 86
6- الأجهزة 89
الفصل الرابع: تنظيم البحث التجريبي في التربية وشروط نموه 93
أهمية البحث التجريبي في التربية 93
شروط البحث التربوي 96
الفصل الخامس: خطوات البحث التجريبي في التربية 102
دور الملاحظة 102
اختبار مدى صلاح الفكرة الجديدة 103
المدارس التجريبية 106
الحاجة إلى تجارت واسعة المدى 107
التجربة المستندة إلى ما قبل وما بعد 110
أثر التجديد 114
أثر «هاوثورن» 115

القسم الثاني
بعض مبادئ الإحصاء في التربية 119
مدخل 121
الفصل الأول: التمثيل البياني لتوزع متحول وحيد 127
المدرح التكراري 130
المنحني التكراري 132
منحني التوزع السويّ 140
الفصل الثاني: قياس المقادير المطلقة 145
آ- المتوسطات 146
1- الوسط الحسابي وحسابه 147
2- الوسيط وحسابه 156
3- النمط وحسابه 162
ب- دقة القياس 163
1- الاختلاف المتوسط 166
2- الاختلاف الوسيط (الخطأ المحتمل) 167
3- الانحراف المعياري 171

4- الصلة بين الاختلاف المتوسط والخطأ المحتمل
والانحراف المعياري 179
5- الفرق بين متوسطين 180
6- خداع المتوسطات 185
7- قانون الأخطاء 189
الفصل الثالث: الترابط 198
حساب الترابط ومعامله 206

القسم الثالث
بعض نتائج الأبحاث التجريبية 229
الفصل الأول: الحال الحاضرة للأبحاث التجريبية 231
البحث التجريبي وتنظيمه في الاتحاد السوفياتي 243
البحث التجريبي في أوستراليا 250
البحث التجريبي في البلدان النامية 253
بعض معالم البحث التربوي في البلدان العربية 257
البحث التجريبي والتخطيط التربوي 261
الفصل الثاني: الروائز النفسية في ميدان التربية التجريبية 272
1- نظرة تاريخية 272
2- تصنيف الروائز 278
الروائز الفردية والروائز الجمعية 279
الروائز اللفظية والروائز غير اللفظية 280
روائز النمو العقلي أو الذكاء 284
روائز القابليات 288
روائز الشخصية 305
الروائز التربوية أو روائز المعرفة 335
سلالم التقدير 352
3- معايير جودة الرائز 354
صدق الاختبار 355
ثبات الاختبار 363
الموافقة 366
الموضوعية 369
سهولة التطبيق 372
سهولة وضع العلامات 373
إمكان المقارنة 374
الاقتصاد 374
النفع 375
الفصل الثالث: الأبحاث التجريبية حول قيمة الفحوص
المدرسية التقليدية 376
العامل الشخصي في الفحوص التقليدية 384
أهم المآخذ التي تؤخذ على الفحوص التقليدية 394
مناقشة 397

الفصل الرابع: الأبحاث التجريبية حول إعداد مناهج الدراسة 406
القيمة التثقيفية لمواد التعليم 407
وضع المناهج 414
تطوير المناهج 419
تعليم الرياضيات والعلوم 421
تعليم العلوم 423
تعليم اللغات 424
التجديد والبحث التربوي التجريبي 426
التعليم المبرمج 427
الكتب المدرسية 433
الفصل الخامس: المعلمون والبحث التجريبي 438
نقص المعلمين وأسبابه 438
بعض الحلول الممكنة لمسألة العوز في المعلمين 441
الحلول المستندة إلى تغيير أساسي في بنية التعليم 442
التعليم عن طريق «فريق من المعلمين» 444
أبحاث تجريبية حول اختيار مهنة التعليم 447
«أنتروبولوجيا» التربية 448
مصادر البحث
المصطلحات 451
456

في هذه المرحلة من تطور العلم والصناعة والآلة، يجأر مطلب أساسي غدا في نظر العلماء والباحثين وسائر قادة المجتمع المعبّر العميق عن روح العصر ومستلزماته، نعني به البحث العلمي.
وغني عن القول أن هذا البحث العلمي الدائب يأخذ اليوم أبعاداً واسعة في ميدان التقدم التقني في شتى مجالات الحياة الاقتصادية، من زراعية وصناعية وتجارية. وإذا كان التطور التقني هو السمة المميزة لعصرنا، بل هو أداة التقدم ومعياره، ومقياس النمو الاقتصادي والاجتماعي في أي بلد، فلابد أن نضيف إلى ذلك أن البحث العلمي هو محرك هذا التطور وباعثه ورائد خطواته، وهو الذي يستخلص منه أقصى مداه ويدفعه إلى مزيد من العطاء.
وليس جديداً أن نقول إن السباق الحقيقي بين الدول وبين العلماء غدا اليوم سباقاً على مزيد من الأبحاث العلمية، سواء اتصلت بالأرض أو بالفضاء، وسواء كان ميدانها الذرّة أو القمح. بل حسبنا أن نذكر أن أكثر الدول المتقدمة اليوم تحاول أن تخصص نسبة كبيرة من دخلها القومي لأغراض البحث العلمي: هكذا تخصص الولايات المتحدة 3.7% من دخلها القومي (عام 1963/64) للبحث العلمي وتخصص بريطانيا 2.7% من دخلها القومي (عام 1964/65) لهذا البحث العلمي، وتخصص هولاندا له 2.1% من الدخل القومي (عام 1964) وتخصص اليابان 1.6% من ذلك الدخل (عام 1963)(1)..
أما العائدات الاقتصادية التي تجنيها هذه الدول من وراء هذا البحث العلمي الدائب الصبور، فلا تحتاج إلى بيان، وهي في الجملة تندّ عن القياس. وإذا كان لابد من بعض الأرقام التي تقدم فكرة تقريبية عن مردود هذا البحث، فلنذكر أن مردود الأموال التي خصصت في الولايات المتحدة لإجراء أبحاث على الذُرة الهجينة بلغ حوالي 700% في كل سنة، حسب تقديرات عام 1955، كما بينت ذلك دراسات «غريليتشز Griliches»(2). ولنذكر أيضاً أن التقديرات المتصلة بنفقات الأبحاث العلمية في الزراعة عامة، بينت أن معدل عائدات هذه النفقات بلغ على أكثر تقدير 35% في السنة. ولنذكر أن باحثاً هو «دينسون Denison» يعزو حوالي 18% من معدل زيادة النمو في اقتصاد الولايات المتحدة بين عام 1919 وعام 1957 إلى تقدم المعرفة والبحث العلمي.
أما الدراسات التي تبين أثر التقدم التقني عامة (الذي هو ثمرة من ثمرات البحث العلمي) في التنمية الاقتصادية وفي زيادة الدخل القومي، فقد غدت متكاثرة في السنوات الأخيرة، وهي كلها تشهد على أن العامل الأساسي في هذه التنمية هو عامل التقدم التقني وما يثوي وراءه من بحث علمي ومن رأس مال بشري. ولنشر، بين هذه الدراسات العديدة، إلى دراسة الأستاذ «سولو Solow» التي تعتبر نقطة انطلاق في هذا المجال: فلقد بين، لدى بحثه في الإنتاج الإجمالي غير الزراعي في الولايات المتحدة بين عام 1900 وعام 1960، أن ثمة عوامل أربعة تؤثر في زيادة الإنتاج في أي بلد (وهي: رأس المال، وتزايد السكان، وتزايد مصادر الثروات المادية، والتقدم التقني) وأن العوامل الثلاثة الأولى لا تفسر النمو الاقتصادي الذي حدث في الولايات المتحدة إلا بنسبة 10%، أما ما تبقى (أي 90%) فيرجع إلى «عوامل متبقية Residual Factors» يمكن أن نجملها تحت عنوان شامل هو: «التقدم التقني». ومثل هذه النتيجة تقريباً وصل إليها الأستاذ «ماسال Massal» في دراسته للصناعات التحويلية في الولايات المتحدة أيضاً، ووصل إليها الأستاذ «أوكرست Aukrust» في النروج، والأستاذان «رادوي Reddaway» و«سميث Smith» في إنكلترا.
غير أن هذا البحث العلمي الذي انطلق فغدا خصيباً في ميدان الصناعة والزراعة والتجارة وكثير من ميادين النشاط الاقتصادي، ما يزال يمشي على استحياء في ميدان التربية. حتى ليحق لنا أن نقول أن التربية التي دفعت التقدم التقني في شتى ميادين الحياة وكانت سبب هذا التقدم ومحركه، وأدوات تكوين الخبرات اللازمة لهذا التطور، قمينة بأن تلتفت إلى ذاتها، فتجري على نفسها ما أجرته على سواها من تطوير للأساليب التقنية عن طريق البحث العلمي.
وترجمة هذا أن توجه التربية مزيداً من العناية للبحث العلمي في التربية من أجل تحقيق ثورة في وسائلها وطرائقها وبنيتها. ذلك أن التربية ما تزال إلى حد بعيد تعيش على البنية التقليدية التي عرفتها منذ آلاف السنين، والتجديد الذي تحدثه في بعض طرائقها، تجديد يتم في إطار هذه البنية لا يتعداها ولا يحاول أن يتجاوزها ولا يجرّب أن يسأل عن معناها وقيمتها، فكأنها ضربٌ من الكيان المقدس الذي لا يجوز مسّه. وقوام هذه البنية «المقدسة»، كما نعلم، الحجرة التي تضم طلاباً يجلسون على مقاعد وأمامهم معلم يجلس على كرسي أو منبر، وراءه لوح أسود.
ويزيد في شعور المربين اليوم بضرورة تغيير هذه البنية التقليدية وتجاوزها ما تواجهه التربية من مشكلات محرجة عصية على الحل، إن نحن لم نحاول إعادة النظر في تلك البنية إعادة كاملة. فهناك الأعداد المتزايدة من الطلاب الراغبين في الدراسة (نتيجة للنمو السكاني الكبير ونتيجة لازدياد الإقبال على التعليم ولعوامل أخرى) التي لا نجد مكاناً لها والتي تضيق بها حجرات التعليم مهما اتسعت، وتعجز عن تلبية مطالبها أعداد المعلمين مهما عظمت. وهناك النفقات والأموال التي يستهلكها التعليم والتي أصبحت عبئاً ثقيلاً على أكثر الدول ثراء فضلاً عن أفقرها. وهناك المستوى الكيفي في التعليم المهدد بالتدني، نتيجة لنقص الإمكانات، وما ينجم عن تدنّيه من فقدان الفائدة المرجوة من وراء التعليم أصلاً. وهناك الأعداد المتدفقة من الخريجين الذين لا يجدون عملاً والذين ينضمون إلى «زمرة المثقفين العاطلين»، ليكونوا معهم أداة من أدوات النقمة على المجتمع والثورة على المجتمع.
هذا الوضع الجديد الذي يواجهه التعليم منذ الربع الثاني من هذا القرن خاصة، والذي يشتد خطراً سنة بعد سنة، لابد له من «ثورة تكنولوجية» تربوية، تحاول أن تستخدم الابتكار والتجديد ونتائج التطور العلمي والفني لتضعها في خدمة المشكلات التربوية الراهنة.
ولا يعني هذا أن مثل هذه المحاولات من أجل تجديد وسائل التربية وقلب الأسلوب السائد فيها وتعديل بنيتها محاولات لم تقم في ميدان التربية حتى يومنا هذا. فكلنا يعلم العديد من الأبحاث التي تمت من أجل تطوير مناهج التعليم وجعلها في خدمة احتياجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وربطها بحاجات الطاقة العاملة وسوق العمل. وكلنا يعلم الجهود الكبيرة التي تجري من أجل تطوير الوسائل السمعية البصرية واستخدام الراديو والتلفزيون والسينما في ميدان التعليم. بل جميعنا ينظر في حذر واهتمام معاً إلى ذلك الانقلاب الذي يريد أن يحدثه «التعليم المبرمج» والتعليم بالآلات؟ ولا يجهل أحدنا ما يقوم به الباحثون من دراسات متصلة حول تطوير هندسة البناء المدرسي لجعله أقل كلفة وأوفى بأغراض التربية.
هذه كلها وكثير سواها، جهود تقوم وأبحاث تجريبية تثور هنا وهناك، من أجل تطوير بنية التربية. غير أنها رغم ذلك ما تزال مقصرة عن المدى المطلوب، لا سيما إذا قيست بما بلغته الأبحاث في الميادين العلمية الأخرى، وفي ميدان الصناعة والزراعة خاصة. ويرجع ذلك فيما يرجع إلى طبيعة العمل التربوي. فهذا العمل محافظ بطبعه، وهو بالتعريف نقل تجربة الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة؛ ومن هنا فهو عصيٌّ على التجديد، تنزع فيه الأجيال السابقة إلى أن تعيد تجربتها هي وإلى أن تحافظ على ما ألفت وعرفت، وتنكر وتسفّه ما جهلت.
على أن للتربية قدوة حسنة بالزراعة نفسها. فالزراعة أيضاً ميدان تجلله التقاليد وأساليب العمل الموروثة. والمزارعون من أكثر الناس محافظة واتباعاً للسنن القديمة. ومع ذلك فقد استطاعت الأبحاث الرائدة فيها أن تثمر وتنتج، واستطاع التطور التكنولوجي وما رافقه من إدخال الآلة إلى الزراعة وتغيير أدوات الإنتاج وطراز الإنتاج، أن يحقق انقلابات جذرية عادت على الاقتصاد بفوائد جمة.
إن التربية مدعوة إذن إلى تحقيق ثورتها التكنولوجية.. ولا نعني بهذه الثورة مجرد إدخال الوسائل السمعية والبصرية والآلات إلى التعليم، كما يُظن في كثير من الأحيان، بل تجديد جميع الوسائل وجميع العناصر التي تعمل عملها في التعليم: كالمناهج والطرائق والوسائل التعليمية والكتب واللوح الأسود والمقعد وفرق الطلاب والصلة العددية بين الطلاب والمعلمين وتنظيم حجرات الصفوف أو الانتقال من درس إلى درس، والجرس الذي يقطع أوصال اليوم المدرسي، والفحوص والشهادات التي تقرر مصير الطلاب، وكل ما يدخل في العملية التربوية. ففي هذه المجالات جميعها، تشتد الحاجة إلى انقلابات أساسية وتغييرات جوهرية، هي قوام الثورة «التكنولوجية» المنشودة.
وإذا كانت هذه الثورة التربوية المنبثقة عن نتائج البحث التربوي، لازمة في كل عصر، فهي في البلدان المتخلفة والبلدان السائرة في طريق النمو (وبينها البلدان العربية) ألزم وأوجب. فالمشكلات التعليمية في هذه البلدان أشد وطأة: أنها تكاد تقف حائرة (ولابد أن يصيبها الشلل الكامل بعد سنوات إن لم تعد للأمر عدته) أمام تزايد أعداد الطلاب (تزايداً يتجاوز بكثير ما نقع عليه في البلدان المتقدمة، وذلك بسبب ارتفاع معدل نمو السكان فيها وبسبب فتوة السكان والإقبال السريع والمفاجئ على التعليم بعد طول رقاد). وهي لا تدري ما تصنع أمام النفقات المتزايدة في ميدان التربية، تلك النفقات التي تقتطع من ميزانياتها ومن دخلها القومي ما
لا تقوى على احتماله وما يصطدم بحاجات الإنفاق في ميادين أخرى هامة. وهي تشكو يوماً بعد يوم عوزاً متزايداً في أعداد المعلمين المؤهلين، ولا تستطيع أن تهيء لتلك الجموع المتزاحمة من المتعلمين ما تحتاج إليه من معلمين، وإن استطاعت فعلى حساب اقتطاع جزء كبير من أفراد الطاقة العاملة الفعلية (قد يبلغ أحياناً ربع هذه الطاقة!). وهي فوق هذا وذاك لا تجد الأبنية الكافية ولا تقوى على أن تنشئ منها ما يسد الحاجة.
فماذا تصنع؟ إنها مدعوة أكثر من سواها إلى أن تلتفت صوب البحث العلمي وصوب الابتكار التربوي، فهو وحده القمين بأن يخرجها من الدور الفاسد الذي تدور فيه. إن ضالّتها لابد أن تكون الفكر، نعني الفكر العلمي الذي تسلطه على مشكلات التربية ليبدع لها الحلول. ومن هنا يقول بعضهم بحق إن هذه الدول السائرة في طريق النمو مدعوة إلى أن تكون الرائدة السباقة في طريق تجديد التربية وتغيير أساليبها وقلب بنيتها. بل يذهب بعضهم إلى حد القول إن هذه البلدان هي «المختبر» المرتقب للتربية. ولا يعنون بذلك أنها حقل رخيص سهل للتجارب التربوية، وأن شأنها في التربية يمكن أن يكون شأن الجرذان البيض والأرانب في مخابر علماء النفس. بل يعنون بذلك أن هذه البلدان تطرق مشكلات تربوية جديدة وصعبة، وأن مجابهة تلك المشكلات لن يكون إلا بالاستعانة بطرائق العلم الحديث وأساليبه التقنية، وأنها بالتالي غير مضطرة إلى أن تعاود المراحل السابقة التي مرت بها البلدان المتقدمة قبل أن تصل إلى نظمها التربوية الحالية، وفي مكنتها أن تفيد مما حدث في الكثير من هذه البلدان وتزيد عليه.
* * *
وبعد، هذه صورة عجلى للأوضاع التي تنبثق من خلالها الحاجة إلى البحث التربوي في العالم وفي البلدان النامية خاصة. وهي صورة قمينة بأن تبرز الباعث الذي ينطوي وراء عنايتنا بتقديم هذا الكتاب لقراء العربية. لقد كتبنا كثيراً من أجزاء هذا الكتاب منذ نيف وعشر سنوات. وها نحن أولاء اليوم أمام حشد جديد هائل من الأبحاث والتجارب التربوية، يثبت مرة أخرى غزارة هذا الموضوع وخصبه وأهميته في عصرنا الحديث. ومن هنا كان لابد لنا أن نصوغ ما كتبنا صياغة جديدة، كاملة، وأن نحذف منه الكثير ونضيف إليه ما هو أكثر، لا سيما بعد ولادة الأبحاث التربوية العديدة، التي أنشأها ظهور الاهتمام بالتخطيط التربوي في السنوات العشر الأخيرة، خاصة.
ولا نزعم مع ذلك أننا وفينا هذا الموضوع الضخم كل حقه أو بعض حقه. وكل ما أتينا به مدخل مجمل، هدفه أن يبيّن للدارس والباحث أصول البحث التربوي ومبادئه، وأن يقف عند أهم أدواته، وأن يقدم عرضاً سريعاً لبعض نتائجه في شتى ميادين العملية التربوية.
ورائدنا في هذا كله أن نضع بين يدي الباحثين والمعلمين والدارسين أداة نرجو أن تكون محرّضة على روح البحث العلمي، موقظة لهموم التجريب ومشاغل التنقيب، مهيجة لأشجان التساؤل العلمي دافعة إلى إثارة المشكلات وتقرّيها بغية التجريب عليها والبحث فيها. وإذا كانت الروح العلمية هي التي لابد أن تكون عدة الأمة العربية وسلاحها ضد كل ما يهدد وجودها وكيانها، فالبحث العلمي ليس أداة هذه الروح ووسيلتها فحسب، بل هو الذي يخلقها ويكوّنها. فالروح العلمية
– شأن أي صفة من الصفات النفسية – لا تنبت إلا بالمعاناة والممارسة، ولا تزكو إلا عن طريق التمرّس بأساليب البحث العلمي وفنونه.
إن رأس أهداف التربية في العالم اليوم خلق روح الإبداع والابتكار لدى الشبيبة منذ نعومة الأظفار. وإذا كان هذا المطلب هاماً في كل بلد، فهو في بلداننا النامية أكثر إلحافاً. ولا نغلو إذا قلنا إن أهم أهداف التربية في بلادنا العربية أن نعمل على تكوين جيل عبّ من روح العلم وعرف وسائله وتذوّق ما فيه من إبداع وتمرّس فعلاً بالابتكار والخلق في شتى ميادين الحياة.
ولعلنا بالغون بعض ما نرجو من وراء الجهود الكبيرة التي نبذلها في ميدان التربية والأموال الكثيرة التي ننفقها فيها، إذا نحن عملنا أولاً وقبل كل شيء على بث هذه الروح العلمية لدى المعلمين والأساتذة أثناء تكوينهم في معاهد المعلمين وكليات التربية، وإن نحن جعلناهم يتمرسون فعلاً بالبحث العلمي التربوي بدلاً من أن يقرأوا عنه فحسب. وهل هو بالأمر القليل أن نصل إلى تكوين معلمين ينبثون في أرجاء البلاد، فلا يواجهون ما يرونه أمامهم من مشكلات ومن مظاهر الحياة مواجهة سهلة، ولا يلقونها بنظرة سادرة، بل يقبلون عليها بنظرة الباحث الذي يعرف أن يرى المشكلات حيث لا يراها غيره، وأن يصنّف الأبحاث في خصوبة ويسر، وأن يتساءل وينعم النظر والملاحظة، وأن يفترض ويجرّب فيصل. وهل نقول جديداً إذا قلنا إن مجتمعنا العربي في حاجة إلى مثل هذه النظرات المبدعة والعيون النفاذة البحاثة! هل نقول قولاً إدّاً إن نحن أنكرنا «الإبداع» المرتجل والابتكار «اللدني» كما عهدناه، ورجونا أن ننطلق في طريق الإبداع الحق الذي تخلقه الألفة الطويلة مع العلم ومع الأساليب العلمية!
فعسى أن يسهم هذا العمل المتواضع في أن يبلّغ المعلمين والمربين عندنا بعض ما رجوناه، وأن يكتمل بتدارسهم له ونقدهم لنقائصه الكثيرة، وأن يغتني بانقلابه على أيديهم إلى عمل فعلي وبحث واقعي وتطبيق حيّ.
أما شكرنا بعد ذلك، بل قبل ذلك، فإلى المربين العرب الذين كانوا أول من ألقى بذور البحث التربوي في بلادنا، وعلى رأسهم المرحوم إسماعيل القباني والدكتور عبد العزيز القوصي رائد البحث التربوي في مصر والبلاد العربية، وأول منظم فعلي له، ورأس المدرسة العلمية في التربية، التي حملت وأتأمت وأعطت خير الثمرات والنبتات في هذا الميدان الهام.
بيروت في 5/1/1968
عبد الله عبد الدائم