الإصدار: العاشرة – تموز/ يوليو ٢٠٠١

دار النشر: دار العلم للملايين – بيروت

تصدير 5
القسم الأول: مدخل عام إلى دراسة التخطيط التربوي 15
الفصل الأول: ما هو التخطيط التربوي وما هي مبرراته 17
الفصل الثاني: صعوبات التخطيط التربوي 52
الفصل الثالث: الحلول الممكنة لصعوبات التخطيط التربوي 66
القسم الثاني: أسس التخطيط التربوي والشروط اللازمة له 89
الباب الأول: المعلومات السكنية ودورها في التخطيط التربوي 91
الفصل الأول: المشكلة السكانية في العالم 93
الفصل الثاني: الأوضاع السكانية في البلاد العربية 119
الفصل الثالث: أهمية البيانات السكانية في التخطيط التربوي 143
الباب الثاني: الطاقة العاملة والتربية 167
الفصل الأول: أهمية دراسة الطاقة العاملة في تخطيط التربية 169
الفصل الثاني: حصر الطاقة العاملة 194
الفصل الثالث: التنبؤ بحاجات الطاقة العاملة خلال سنوات الخطة 210
الفصل الرابع: قلب الحاجات من الطاقة العاملة إلى حاجات تربوية 220
الفصل الخامس: حساب أهداف التعليم 243
الفصل السادس: طريقة الطاقة العاملة والطريقة الثقافية 250

الباب الثالث: العوامل الاقتصادية ودورها في التخطيط التربوي 263
الفصل الأول: أهم المعلومات الاقتصادية اللازمة للمخطط التربوي 265
الفصل الثاني: اقتصاديات التربية: (1) التربية والنمو الاقتصادي 298
الفصل الثالث: اقتصاديات التربية: (2) عائدات التربية 310
الفصل الرابع: اقتصاديات التربية: (3) كلفة التربية 338
الفصل الخامس: اقتصاديات التربية: (4) تمويل التربية 390
الباب الرابع: المعلومات التربوية ودورها في التخطيط التربوي 425
الفصل الأول: المعلومات التربوية الكمية 427
الفصل الثاني: المعلومات التربوية الكيفية 448
الباب الخامس: العوامل الاجتماعية ودورها في التخطيط التربوي 463
الفصل الأول: العوامل الاجتماعية البنيوية 465
الفصل الثاني: العوامل الاجتماعية الثقافية 479
الفصل الثالث: الطبقات الاجتماعية والتربية 498
الفصل الرابع: التربية والرقي الاجتماعي والانتقال الاجتماعي 514
القسم الثالث: كيف توضع الخطة التربوية 525
الباب الأول: مراحل وضع الخطة التربوية 527
الفصل الأول: الخطوات التمهيدية عند وضع الخطة التربوية 529
الفصل الثاني: إعداد مشروع الخطة 537
الفصل الثالث: الاستشارات والتبني – التنفيذ والتصحيح – التقويم 553
الفصل الرابع: نظرة مجملة إلى مراحل وضع الخطة الاقتصادية والاجتماعية العامة 562

الباب الثاني: تحديد الأولويات 567
مدخل: مسألة الأولويات في التخطيط التربوي 569
الفصل الأول: أولوية التربية ضمن إطار الخطة الاقتصادية والاجتماعية العامة 570
الفصل الثاني: الأولويات ضمن إطار التربية 577
الباب الثالث: أجهزة التخطيط التربوي 605
الفصل الأول: أجهزة التخطيط الاقتصادي والاجتماعي 609
الفصل الثاني: أجهزة التخطيط التربوي 617
الفصل الثالث: الأجهزة المساعدة لجهاز التخطيط التربوي 629
الفصل الرابع: الصلة بين جهاز التخطيط التربوي وجهاز التخطيط العام 639
القسم الرابع: التخطيط التربوي في البلاد العربية 645
الفصل الأول: نظرة سريعة إلى تاريخ التخطيط التربوي في البلاد العربية 647
الفصل الثاني: أهم اتجاهات الخطط التربوية في البلاد العربية 661
الفصل الثالث: أجهزة التخطيط التربوي في البلاد العربية 672
الفصل الرابع: مؤتمر طرابلس (ليبيا) 9-14 نيسان 1966 693
مراجع الكتاب 721

عندما يتصدى الباحث لموضوع التخطيط التربوي «تزدحم المعاني في صدره» – على حد قول الجاحظ – فلا يدري أيها يختار. فهذا الموضوع الوليد، استطاع – رغم حداثة عهده – أن ينثر هنا وهناك طائفة من الدراسات الشتيتة، المتباينة دون شك، والمتعارضة في بعض الأحيان، تنبث غالباً في صفحات المجلات وتقارير المؤتمرات وفي طيات النشرات غير المطبوعة، وتظهر أحياناً في بعض الكتب القليلة التي تتناول طرفاً من البحث وتترك أطرافاً.
ومهمة الباحث وسط هذه الفورة المتخبطة لهذا البحث الناشئ، ليست مهمة يسيرة. لاسيما إذا أراد أن يستخلص من حصاد الدراسات الشتيتة المتباينة، دراسة منظمة يضمها كتاب مبوب منظوم.
غير أننا وجدنا من اللازم أن نقتحم مثل هذه المحاولة، لنعطي هيكلاً أولياً لهذا البحث الذي ما يزال سديمياً غائماً إلى حد بعيد، ولندع للباحثين بعد ذلك وللأبحاث التي تتوالد وتتكاثر في أرجاء الأرض يوماً بعد يوم، تعديل هذا الهيكل وإصلاحه وملأه باللحم والدم.
وقد جربنا أن يكون هذا الهيكل شاملاً جهد المستطاع لجوانب الدراسة كلها، قادراً على أن يعرض الصفحة الكاملة للموضوع، وكان طبيعياً أن يكون ثمن هذا الشمول إيجازاً نعترف أنه بلغ حد الخلل في بعض الأحيان. فلقد أتت معالجة معظم الموضوعات معالجة مقتضبة، تحتوي على أكثر الجوانب دون أن تشبع هذه الجوانب درساً وتحليلاً. وقد كنا نشعر ونحن نكتب فصول الكتاب أن علينا أن نبذل جهداً خاصاً في سبيل تحقيق هذا الإيجاز والإجمال لموضوع مترامي الأطراف متعدد الجوانب. وكان لابد لنا – حرصاً على تضمين الكتاب شيئاً من كل شيء في ميدان التخطيط التربوي – أن نضحي بما تستلزمه دراسة بعض الموضوعات من مزيد العمق والتحليل والنقد.
ومع ذلك فهيهات لنا أن نزعم أننا أحطنا – ولو إحاطة موجزة عرضانية – بكل ما في موضوع التخطيط التربوي. فهذا الموضوع – بحكم تعريفه وطبيعته – أنه يغوص بعيداً في أعماق الدراسات السكانية والدراسات الاقتصادية والدراسات الاجتماعية والدراسات التربوية، ويتوجب عليه أن يجول في هذه الميادين كلها إذا أراد أن يخرج بموقف صحيح. والتخطيط التربوي – كما نعلم وكما سيتبدى من صفحات الكتاب – هو النظرة الشاملة المتكاملة إلى مشكلات التربية جميعها، وهو رسم للسياسة التعليمية في كامل صورتها رسماً ينبغي أن يستند إلى إحاطة شاملة أيضاً بأوضاع البلد السكانية وأوضاع الطاقة العاملة والأوضاع الاقتصادية والتربوية والاجتماعية. وإذا كانت الفلسفة يوماً من الأيام – في عرف فلاسفة يونان – علم العلوم، فمن غير الغلو أن نقول اليوم إن التخطيط التربوي غدا أشبه بفلسفة أرسطو أفلاطون. والعلم المحيط الذي يطلب من المخطط التربوي اليوم يكاد لا يطلب من أي باحث آخر. إن عليه أن يمضي بعيداً في معرفة أحوال بلده السكانية والاقتصادية والاجتماعية، وعليه أن يعرف دقائق نظام التربية السائدة عنده ودقائق نظم التربية في العالم، وعليه أن يستهدي فن الإحصاء، وأن يكون في الوقت نفسه ذا حظ موفور في فلسفة التربية ومذاهبها ومبادئها وطرائقها. وعليه – خلال عمله التخطيطي – أن يتصل بالمسؤولين عن التخطيط الاقتصادي والاجتماعي العام، كما عليه أن يتصل بمختلف المنظمات والهيئات التي تلعب دوراً في التنمية عامة، وأن يحقق التواصل اللازم مع سائر المعنيين بالتربية والثقافة. ومنطلق ذلك كله أن التخطيط التربوي يقع في القلب من نشاط المجتمع كله ومن عملية التنمية كلها، فهو أداة التنمية ووسيلتها الأساسية. ومن هنا كان لزاماً عليه أن يكون العصب المحرك لشتى جوانبها، والخيط الناظم لأطرافها. وكلما تقدم الزمن وتقدمت الأبحاث، استبان دور التخطيط التربوي في نمو الاقتصاد والحياة الاجتماعية، فضلاً عن دوره الأساسي في نمو الثقافة والحضارة عامة، ووجد الاقتصاديون وسائر المعنيين بتطوير المجتمع أن عملهم بالتالي رهين ما يحققه التخطيط التربوي من تنمية للعنصر البشري، رأس كل تنمية وأساس كل تطوير. وحصاد هذا كله أن يجد التخطيط التربوي نفسه يوماً بعد يوم مسؤولاً أكثر من أي ميدان آخر عن قيادة عملية التنمية والتقدم، وعن صياغة بنية المجتمع. ولن يستطيع أن يضطلع بمثل هذه المهمة إلا إذا كان مطلاً على صفحة الأمور كاملة، عارفاً بآلية التنمية وأصولها الاقتصادية والاجتماعية، ولا نغلو إذا قلنا أن مهمة الإحاطة الشاملة التي تقع في الأصل على عاتق الخطة العامة للدولة والتي تقع مبدئياً على عاتق المشرفين على جهاز التخطيط العام (سواء سمي مجلساً أعلى للتخطيط أو مجلس إعمار أو مجلساً للتنمية الاقتصادية.. الخ) تنزلق يوماً بعد يوم لتقع على كاهل خطة التربية أولاً ومخططي التربية وأجهزة التخطيط التربوي. فهم الذين يتبدون يوماً بعد يوم أقدر على تحقيق التوازن والتكامل في أجزاء الخطة العامة، وهم المسؤولون قبل غيرهم عن إقامة اللحمة اللازمة بين نمو المال والموارد الاقتصادية وبين نمو الرجال وإعداد الطاقة البشرية. ونستطيع أن نقول أن التخطيط الاقتصادي الاجتماعي العام لن يكون قادراً في بلد من البلدان على أن يجد طريقه السوي إلا إذا استطاع التخطيط التربوي أولاً أن ينمو وينضج ويحيط بميدانه، وإلا إذا أدرك هذا التخطيط التربوي مهمته الأصيلة، مهمة إعداد الوقود اللازم للتنمية والمحرك الأول للتقدم، وقذف بنفسه بالتالي في قلب المعركة الاقتصادية والاجتماعية ليكون موجهاً أساسياً وليكف عن أن يكون مجرد تابع أو ملحق. فعملية التنمية – ونقولها مراراً وتكراراً – هي عملية تكوين الرجال وإطلاق الطاقة الأولى القادرة على تحريك المجتمع، نعني طاقة الفكر والخلق والإبداع، طاقة المعرفة والفن والدراية، طاقة الإنسان الذي يسلط قواه الإنسانية على شؤون الإنتاج والثروة والحضارة. ومهما يختلف الاقتصاديون في تفسير «ثروة الشعوب» فهم متفقون على أن إطلاق قدرة الإنسان وكفاءته هو السبب الأول والعلة المحركة.
وإذا كان الكتاب الذي نضعه بين أيدي قراء العربية يهدف إلى شيء أساسي، فهدفه أولاً أن يهيئ للتخطيط عامة وللتخطيط التربوي خاصة دوره في قيادة مجتمعنا العربي. وإذا كان التخطيط اليوم مطلباً أساسياً – ولا سيما لدى الشعوب النامية – فهذا التخطيط في نظرنا لا يبلغ مداه إلا إذا نزل التخطيط التربوي إلى الساحة فعلاً وقاد المعركة. فقيادته للمعركة – ولا سيما في مثل بلادنا العربية وسائر البلاد النامية – يعني البدء فعلاً من حيث ينبغي أن نبدأ، البدء بالإنسان وبثرواته القادرة وحدها على استخراج ثروات الطبيعة وخيرات المادة. ولا يعني هذا أننا نقول برد كل ما هو اقتصادي واجتماعي إلى ما هو تربوي، وأننا نوصي بضرب من التبعية، تبعية الاقتصاد للتربية، بعد تبعية التربية للاقتصاد. فنحن – كما سنفصل ذلك في الكتاب – ننكر النظرة الواحدية والتفسير الواحدي للأشياء، وننكر أن ترد الحوادث والظواهر إلى علة واحدة، ونأخذ التفسير الدائري الذي يقيم بين هذه الظواهر صلة تأثر وتأثير متبادلين، صلة أخذ وعطاء. غير أن ما نقوله – ولا سيما في مثل ظروف بلادنا – أن التخطيط التربوي ما يزال بعيداً عن أن يحقق هذه العلاقة الدائرية مع التخطيط العام للدولة، وأنه ما يزال بعيداً عن ميدان التنمية إلى حد بعيد. ولابد له بالتالي أن يغادر عزلته وينزل إلى قلب المعركة الاقتصادية والاجتماعية، لابد له أن يتولى دوره القيادي في تكوين الإنسان قائد التنمية ورائدها.
وسنرى من خلال فصول الكتاب كلها، أن الفلسفة التخطيطية السليمة هي التي تجعل محط الرحال في تنمية المجتمع، حضارة الإنسان وسعادة الإنسان، وهي التي تستطيع بالتالي أن تمنح التربية دورها بل سيادتها في عملية التنمية هذه. فالقيادة التربوية ليست ضرورية فحسب من أجل استخراج ثروات البلد وطاقاته الاقتصادية وزيادة إنتاجه ودخله، بل هي ضرورية قبل هذا وفوق هذا لتعطي للتنمية معناها الأصيل وهدفها الأول، نعني خلق حضارة الإنسان. وكثيراً ما تنسى التنمية هذا المعنى الكامل، وكثيراً ما ينسى المعنيون بزيادة الثروة أن محط الرحال هو الثروة الخالقة لرفاهية الإنسان وسعادته وتفتح إنسانيته. فزيادة الثروة قد تكون على حساب الإنسان، وقد يجد الاقتصاديون أحياناً أن الوباء حسن اقتصادياً، وقد يرى عبّاد التنمية الاقتصادية – بمعناها الضيق – أن «الأرض للطوفان محتاجة» على حد قول المعري. وقد يلجأ بعض الموغلين في النظرة الاقتصادية إلى إخضاع الإنسان لعبودية جديدة، هي عبودية المال والاقتصاد ومطالبه، بعد أن كان هدفهم تحريره من ثقل أوضاعه الاقتصادية السيئة. ذلك أن التنمية – كما سنقول أكثر من مرة في كتابنا – إما أن تكون عملاً اقتصادياً واجتماعياً وتربوياً متكاملاً وإما ألا تكون. والتخطيط تخطيط واحد شامل، له قطبه الاقتصادي وقطبه الاجتماعي وقطبه الثقافي. وهو ينحدر ويفقد أغراضه إذا أهمل أي واحد من هذه الأقطاب الثلاثة، ولا سيما إذا أهمل الجانب الثقافي والاجتماعي. والهدف من التنمية بالتالي ليس هدفاً اقتصادياً وإنما هو هدف اقتصادي اجتماعي ثقافي، محط رحاله خلق الحضارة الجديرة بالإنسان.
ومثل هذه النظرة الشاملة الكاملة إلى التنمية وإلى دور الإنسان في المخطط التربوي قبل سواه، وهو المسؤول عنها في نظرنا – أكثر من أي مخطط في أي ميدان آخر – وهذا ما نعنيه حين نريد له الريادة والقيادة.
بل نستطيع أن نذهب إلى أبعد من هذا. ألا نستطيع أن نقول أن نمو أي مجتمع من المجتمعات وتحقيق قفزة حقيقية في حياته وانتقاله من مرحلة التخلف إلى مرحلة الحضارة، أمور تخضع كلها إلى مدى ما تستطيع الثقافة – بمعناها الواسع وبمعناها الإنساني خاصة – أن تحققه فيه من قيادة وإمساك بزمام الأمور؟ أفلا نستطيع أن نقول إن المجتمع الذي لا ينطلق من تكوين الإنسان وقيم الإنسان يظل عاجزاً عن أن يحقق انطلاقته الاقتصادية والاجتماعية، مهما تكن مزاعمه؟ أفلا نستطيع أن نقول إن الإنسان المنتج ليس الإنسان الذي أعد إعداداً فنياً جيداً فحسب، وإنما هو فوق هذا وقبل هذا الإنسان الذي أعد إعداداً إنسانياً، فنمت جوانبه الخلقية والاجتماعية التي تجعله قادراً على إقامة العلاقات الإنسانية الأساسية في أي إنتاج، والتي يصبح بدونها عاجزاً عن العطاء مهما تكن كفاءاته الفنية؟
إن تكوين «رأس المال البشري» – كما شاع وذاع على لسان المخططين جميعهم – هو رأس كل تنمية وبناء للمجتمع. غير أن هذا لا يجوز أن يعني – كما يعني أحياناً لدى بعض الاقتصاديين – مجرد تكوين المهارات الفنية والكفاءات التقنية اللازمة لتسيير عجلة الإنتاج. فالإنسان ليس آلة، ولا يعمل كالآلة. ونتاجه أولاً وآخراً يتأثر بجملة تكوينه وبكامل شخصيته وجماع طبعه وخلقه ونظرته إلى الأشياء. وإعداده ليكون إنساناً لا يقل شأناً عن إعداده ليكون منتجاً بل هو جزء أساسي من إعداده للإنتاج. وهذه المهمة مهمة تكوين الإنسان المنتج، والمنتج الإنسان، هي مهمة التربية والتخطيط التربوي، وهذا التخطيط هو المسؤول عن رعايتها قبل غيره.
هكذا لا يتبدى لنا التخطيط التربوي فناً وأسلوباً في تقدير الحاجات فحسب، وإنما يتبدى لنا قبل هذا فلسفة ومعنىً نضعه في قلب حياة المجتمع ومحركاً ودافعاً إلى خلق التنمية، التنمية الكاملة المتكاملة التي يخلقها الإنسان والقادرة على خلق حضارة الإنسان في أعمق مقاييسها وقيمها.
ونحن حين نضع هذا السفر بين أيدي المخططين والمربين، لا نرمي إلى تزويدهم بالخبرة والدراية اللازمة فحسب، بل نرمي بعد هذا وفوق هذا إلى خلق الوعي التخطيطي القادر على أن يضع التخطيط العام في نصابه ويقيم التخطيط التربوي في مقامه الصحيح، مقام القائد لتنمية حضارة الإنسان عن طريق تنمية الإنسان نفسه.
إن التخطيط – كما يقول الباحثون – فنٌ حيادي، وأسلوبٌ في العمل. وهذا قول صحيح وخاطئ معاً. فالتخطيط كفن يصلح لأي إطار نضعه له. غير أن علينا ألا ننسى أن وضع الإطار لا يقل شأناً وقيمة عن تحقيق مضمون الإطار، والإطار هو الفلسفة العامة الثاوية وراء الخطة، هو النظرة التي ننظر بها إلى وظيفة الخطة في تغيير بنية المجتمع وأهدافه. والذي حرصنا عليه – في كتابنا – ألا نفصل أبداً بين التخطيط كأهداف وفلسفة ونظرة، وبين التخطيط كدراية تقنية ومنهج في التنبؤ والتقدير والحساب.
* * *
وبعد لن نستبق أموراً كثيرة سنقف عندها في صلب الكتاب، وجلّ ما أردناه أن نبين كيف تتكامل جوانب هذا السفر وكيف تهدف إلى تكوين نظرة شاملة تضع التخطيط التربوي في جملة إطاره الفلسفي والاقتصادي والاجتماعي والحضاري. فالفنون وأساليب البحث كثيراً ما تطغى على أهداف البحث، وكثيراً ما ينسى أصحابها أنها في الأصل مجعولة من أجل تنمية جانب من جوانب حياة الإنسان. ولهذا حرصنا منذ البداية على أن نستبعد ذلك المنزلق الذي قد يقع فيه دارس التخطيط التربوي، حين يغرق في تفصيلاته الفنية، ناسياً في نهاية الأمر أن التخطيط توازن، وأن أقل ما يرجى منه بالتالي أن يحقق التوازن اللازم بين الأهداف والأساليب. إن تحكم «الفنيين» في عصرنا، لا يقل خطراً عن تحكم الساسة وغيرهم. وكثيراً ما يُستعبد هؤلاء لدقائق الفن وأساليبه وينسبون له عصمة ليست له، وكثيراً ما يحاولون استعباد الآخرين باسم هذا الفن، وتجميد الحياة في أطر فنهم. ومن هنا كانت مهمة المخطط الواعي أن يقيم التوازن اللازم بين التخطيط كفن وأسلوب، وبين التخطيط كفلسفة ونظرة إلى المجتمع وتقويم للحياة وبناء لقيم الإنسان.
فهل يفلح هذا الكتاب في تكوين هذه النظرة الشاملة؟ وهل يقوى على أن يجعل من التخطيط عملاً منبثقاً من طبيعته التي تعني الشمول والموازنة والنظرة الكلية؟ هذا ما نرجوه، وهذا ما قصدنا إليه أولاً، حين أردنا أن نقدم صورة عامة متكاملة لجوانب التخطيط التربوية ومبادئه وأساليبه، تاركين التمرس بدقائق هذا الفن للمعاناة العملية نفسها. فما يقدمه كتاب كهذا لا يعدو أن يكون أصولاً مرشدة لا تغتني ولا تكتمل إلا بالممارسة والتطبيق.
ويؤكد أهمية هذا القصد عندنا ما نجده من واقع التخطيط التربوي في البلاد العربية. فهذه البلاد – في انطلاقتها الحديثة نحو التخطيط العام والتخطيط
التربوي – معروضة دون شك إلى مزالق كثيرة، على رأسها إهمال هذه النظرة الشاملة، التي تجعل من التخطيط العام بناء لحضارة مجرد نمو في الاقتصاد – إن صح أن يقوم اقتصاد بلا حضارة أو أن تقوم حضارة بلا اقتصاد – والتي تجعل من التخطيط التربوي عملاً متكاملاً مع الخطة الاقتصادية من جهة، ومع بناء المجتمع في كامل كيانه القادر على خلق سعادة الإنسان – من جهة ثانية.
وسنرى خلال فصول الكتاب وخلال الباب الذي أفردناه للحديث عن التخطيط التربوي في البلاد العربية أن هذا التخطيط الناشئ في هذه البلاد إما أن يهمل أي ربط بين التربية وما عداها، ولا سيما بين التربية والاقتصاد، وإما أن يحاول هذا الربط عن طريق إخضاع التربية للاقتصاد في معظم الأحوال. وما يزال هذا التخطيط التربوي بالتالي مقصراً عن أن يلعب دوره الخلاق في التنمية الاقتصادية وفي تجاوزها إلى تنمية إنسانية عميقة. وإذا كان من الصحيح أن التخطيط في البلاد العربية مطلب أساسي – شأنه في معظم الدول النامية – فمن الصحيح كذلك أن مثل هذا التخطيط ليس عصا سحرية يغير البلاد والعباد ويقلب وجه الأشياء بمجرد تسليط فنه عليها. ونحن لا نستخرج في الواقع من التخطيط إلا ما نضعه فيه، نعني ما نضعه من أهداف وفلسفة ونظرة إلى الأمور. والتخطيط الذي نحتاج إليه في بلادنا العربية ليس أي تخطيط دون شك. إنه التخطيط القادر على أن يحرك بنيتها المتخلفة ليطلق فيها شرارة التقدم ويحيلها بنية قادرة على النمو الذاتي المتزايد. ولا يقوى على ذلك إلا التخطيط العام الذي يلعب فيه التخطيط التربوي دوره العضوي الفعال، والذي ينطلق من إعداد الثروة البشرية القادرة على تفجير سائر الثروات. وهل نقول جديداً إذا قلنا إن مجتمعنا العربي – كأي مجتمع سائر في طريق النمو – يحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى روح المبادرة، روح الخلق والإبداع، إلى الفكر الرائد الجريء الذي ينقب ويبحث ويتغلب على صعوبات المادة والحياة، أو بكلمة موجزة إلى الإنسان القوي بإرادته وفنه معاً، بخلقه ومهارته، بإنسانيته المتوازنة المتكاملة؟ وهل يعدّ مثل هذا الإنسان إلا تخطيط عام وتخطيط تربوي نضع فيهما هذا الإعداد الذي نريده ونرسم لهما الوسائل القمينة بذلك؟
وأخيراً، لابد لنا أن نشكر الكثير ممن كان لهم الفضل في ظهور هذا السفر. فهو أولاً وقبل كل شيء حصاد تدريسنا لموضوع التخطيط التربوي في المركز الإقليمي لتدريب كبار موظفي التعليم في الدول العربية. ونحن بالتالي ندين في ظهوره لهذا المركز، إدارة وأساتذة وموفدين ومكتبة. وهو – في كثير من
أفكاره – وليد الحوار المتبادل الذي سقناه مع موفدي الدول العربية إلى هذا المركز في دوراته القصيرة والطويلة، ووليد وجهات النظر المتبادلة بيننا وبين أساتذة المركز وسائر الأساتذة الذين قدموه زائرين. وهو خاصة وليد الشرارة الحية المتقدة التي يستطيع دوماً أن يفجرها المربي الكبير الدكتور عبد العزيز القوصي – مدير المركز – لدى كل من يتقن الاتصال بفكره وروحه.
وهو بعد هذا كله نتاج معاناة حية لمشكلات التربية في كثير من البلدان العربية وفي سورية خاصة، وثمرة حوار دائم مسؤول مع حياة مجتمعنا العربي وآماله ومطالبه. فإليه – في صبوته نحو خلق حضارته العربية الإنسانية الجديرة به – أقدم هذا الجهد المتواضع.
بيروت في 20/5/1966
عبد الله عبد الدائم