الإصدار: الأولى – 2000

دار النشر: دار العلم للملايين – بيروت

هذا الكتاب

عصرنا هو عصر التغير المذهل ولا سيما في عالم المعرفة. والأميّون في القرن الحادي والعشرين لن يكونوا أولئك الذين لا يعرفون القراءة، بل أولئك الذين لا يعرفون التعلّم ثم نسيان ما تعلّموه ثم التعلّم من جديد.
ما هي معالم التربية العربيّة المرجوّة لمواجهة هذا التغيّر؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يحاول أن يجيب عليه الكتاب الذي بين أيدينا. وجوابه بوجيز العبارة أنّ تغيّر المعرفة ينبغي أن تقابله تربية صيغت أهدافها وبُناها ومناهجها وطرائقها وكل ما فيها من أجل جعل الإنسان قادراً على التكيّف مع التغيّر دوماً وأبداً، بفضل امتلاكه المهارات والقابليّات والمواقف والاتجاهات وأدوات المعرفة الأساسية التي تجعله قادراً على التعايش مع أي تغير، بل على إبداع التغير.
ويتناول الكتاب بالتفصيل – في فصوله التسعة – ما يفرضه هذا الموقف من إعادة نظر جذرية وشاملة في التربية العربية، في مراحلها وأنواعها المختلفة، وفي محتواها ومناهجها، وفي هياكلها وإدارتها. كما يتريث عند ما تمليه حقائق التغير من عناية خاصة بالقيم الإنسانية، رعايةً وتحديثاً.
ومن هنا كان هذا الكتاب مؤلَّفاً رائداً للدارسين في معاهد المعلمين وفي كليات التربية بالجامعات العربية، ومرجعاً أساسيّاً للباحثين وللأساتذة ولقادة التربية ولسائر المعنيّين بها وبمستقبلها في البلاد العربية.
والكتاب بقلمِ عَلَمٍ بارز متميز من أعلام الفكر والتربية في البلاد العربية، له في مجالات الفكر والتربية عطاء عريق فذّ، وجهد دائب موصول.

الناشر

تصدير: 7
الفصل الأوّل: الرؤى المستقبلية للتربية في البلاد العربية 13
الفصل الثاني:كيف يتأتّى للتربية العربية أن تواجه التغيُّر العالمي في شعاب القرن
الحادي والعشرين 39
الفصل الثالث: التربية العربية والقِيَم الإنسانية في عصر العلم والتقانة والمال 67
الفصل الرابع: السياسات المستقبلية للتعليم الأساسي في البلدان العربية 103
الفصل الخامس: التربية العربية المستقبلية والاتّجاهات العالمية في مجال تحديث
محتويات المناهج التربوية في مرحلة التعليم الأساسي 147
الفصل السادس: التعليم الثانوي في مواجهة التغيُّر: ربط التعليم الأساسي بالتعليم
الثانوي (نماذج عالمية) 177
الفصل السابع: التعليم الجامعي والعالي في مواجهة التغيُّر الجذري السريع في بنى
العالم اليوم وفي مواجهة المستقبل 199
الفصل الثامن: نحو استراتيجية لمستقبل التعليم العالي في البلاد العربية في ضوء
التغيّرات العالمية 231
الفصل التاسع: التعليم وتحدّيات اليوم والغد من خلال »المؤتمر العالمي للتعليم العالي«
في القرن الحادي والعشرين (باريس من 5-9 تشرين أوّل/ أكتوبر 1998) 255

الفراق بين ما هو كائن وبين ما سيكون – في شتى مجالات الحياة الإنسانية – فراق تتّسع شقّته يوماً بعد يوم اتّساعاً يكاد يبلغ حدّ الطلاق. والفراق المتصاعد في عالم المعرفة – وهو الذي يعنينا هنا أكثر من سواه – يكاد يتصدّر جميع الميادين الأخرى ويقودها. هذا التغيُّر المذهل الذي يطرأ على عالم المعرفة خلال فترات قصيرة ومتناقصة في القصر يُقلق التربويّين بوجه خاصّ. ولا عجب فإنّ المعلومات – كما تشير الإحصاءات وكما بيّن تقرير نشرته جامعة M.I.T الأميركية (معهد ماساشوستس للتكنولوجيا) – تتضاعف الآن خلال فترة تتراوح بين 18 شهراً و24 شهراً. غير أنّ هذه الفترة سوف تتضاءل في نهاية العقد الأوّل من القرن الحاليّ إلى أسبوعين أو ثلاثة أسابيع! كيف يتأتّى للتربية بوجه عامّ، وللتربية العربية بوجه خاصّ، أن تواجه هذا التغيُّر المتسارع في عالم المعرفة (وفي سواه)؟ ذلك هو السؤال الرئيس المطروح على مختلف النظم التربوية في العالم المصنّع والعالم النّامي على حدّ سواء، وذلك هو السؤال الذي ينبغي أن تطرحه النظم التربوية طرحاً واضحاً وأن تجيب عليه إجابات نظريّة وإجرائيّة دقيقة مباشرة.
ذلك أن الأمّيين في القرن الحادي والعشرين – كما يقول »توفلر A. Toffler« في كتابه الأخير »تحوّل السلطة Power Shift(1)« – لن يكونوا أولئك الذين لا يعرفون القراءة، بل هم أولئك الذين
لا يعرفون التعلّم ثمّ نسيان ما تعلّموه ثم التعلّم من جديد.
والكتاب الذي نقدّمه محاولة للإجابة عن هذا التساؤل المقضّ للمضاجع، يتناول المشكلة في البلاد العربية بوجه خاصّ، من خلال حصاد التجربة العالميّة والعربية.
ومنطلقنا الأساسيّ في معالجة هذه المسألة هو الدخول مباشرة في صلب الموضوع. وصلب الموضوع عندنا أن تغيّر المعرفة وتغيّر العلم والتقانة ينبغي أن تقابله تربية من أجل التغيُّر، تعدّ الفرد إعداداً يمكّنه دوماً وأبداً من مواجهة أيّ محدث طارئ. أو بتعبير آخر، إن عناية التربية بتكوين إنسانٍ قادر على التكيُّف مع التغيُّر، يملك أدوات المعرفة والمهارات والقابليّات والمواقف والاتّجاهات التي تجعله قادراً على التعايش مع أيّ تغيُّر، بل على إبداع التغيُّر، هي مفتاح الحلّ من أجل مواجهة ظاهرة التغيُّر المغذّ في سيره. وبقول موجز، إن التربية التي تستطيع أن تواكب التغيّر وتبدعه هي تلك التي تكوّن »إنساناً قابلاً لأن يتعلَّم لا إنساناً متعلِّماً«، كما قالها منذ القدم »جان جاك روسو« وأمثاله. وقد فصّلنا الحديث في كتابنا هذا (ولا سيّما في الفصل الأوّل والثاني) عن أهمّ معالم هذه التربية التي تولّد القدرة على التجدّد والإبداع والتكيّف مع التغيّر وتوجيهه.
وتريّثنا بوجه خاصّ في هذا المجال عند ما ينبغي أن تضطلع به التربية العربية: كالتغير الجذري في بُنى التربية وهياكلها وطرائقها ومناهجها وإدارتها ومراحلها وزبائنها (أعمار الطلاّب الذي يؤمّون المراحل المختلفة)؛ وكالركون إلى »التربية المستمرّة« طوال الحياة، »من المهد إلى اللّحد« كما جاء في تراثنا؛ وكاللّجوء إلى التقنيّات التربويّة الحديثة (وعلى رأسها »الحاسوب والانترنيت«)؛ وكتكوين المواقف والاتّجاهات اللاّزمة للنّجاح في سوق العمل المتغيِّرة (كروح العمل المشترك، والتضامن، وإتقان العمل، والاستجابة المبدعة للمواقف الجديدة إلخ..) وغير ذلك كثير.
ولم نقف في كتابنا هذا عند حدود البحث في المعالم الجديدة للتربية المنشودة في عالمنا المتغيِّر الحُوّل، بل تريّثنا عند ما يلزم عن هذه المعالم الجديدة من إصلاحات جذرية في نظم التربية العربيّة بمقوّماتها المختلفة.
هكذا تحدّثنا (في الفصل الرابع والخامس) عمّا ينبغي أن يكون عليه »التعليم الأساسي« في البلدان العربيّة عند مطالع القرن الحادي والعشرين، من أجل مواجهة مستلزمات التغيُّر، ووقفنا بوجه خاصّ عند أهمّ معالم التّغيير اللاّزمة في مجال تحديث محتويات المناهج التربويّة في مرحلة التعليم الأساسيّ هذه.
كذلك وقفنا (في الفصل السادس) عند أهمّ معالم التّغيير اللاّزم في بنية »التعليم الثانويّ«،
ولا سيّما فيما يتّصل بتفريغ التعليم الثانويّ وتشعيبه، متريّثين عند أهمّ النماذج العالمية في هذا المجال وانعكاساتها الممكنة على النظم التربويّة العربيّة.
ووقفنا بعد ذلك وقفة مطوّلة بعض الشيء (في الفصول الثلاثة الأخيرة)، عند ما يفرضه التّغير في المعرفة على المرحلة الثالثة من مراحل التعليم، نعني »التعليم العالي«، لا سيّما أن هذا التعليم هو الميدان الأساسيّ لإعداد الكفاءات العلميّة اللاّزمة لعصرنا العلميّ التقانيّ المتغيِّر. وقد حاولنا هنا أن نضع المعالم الأساسية لاستراتيجية جديدة للتّعليم العالي في البلدان العربيّة المقبلة على عصر العلم والتقانة والتغيّر والعولمة، تلك العولمة التي يصفها بعضهم بأنّها، »سباق المائة متر«.
وقد ربطنا بين هذه الاستراتيجية المنشودة في مجال التعليم العالي وبين حصاد »المؤتمر العالميّ للتعليم العالي في القرن الحادي والعشرين« الذي عقد في باريس من 5-9 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1998.
وقد يتساءل القارئ لماذا لم نفرد مكاناً للمرحلة السابقة على مرحلة التعليم الأساسيّ، نعني »مرحلة رياض الأطفال«.
ومن حقّه أن يتساءل، بل من حقّه أن يستنكر. وجوابنا عن تساؤله واستنكاره جواب ذو شقّين:
أوّلهما أننا وفّينا هذا الموضوع حقّه في كتاب لنا نشرته حديثاً »المنظمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم«(1).
وثانيهما أن البحث في ما يمليه التّغير في العصر من عناية خاصّة برياض الأطفال بحث ذو شجون
ولا يتّسع له حجم هذا الكتاب. وحسبنا أن نقول إن الاتّجاهات العالميّة اليوم تتّجه نحو إعطاء العناية بهذه المرحلة »مرحلة رياض الأطفال« الأسبقيّة على سائر مراحل التعليم لأسباب غدت معروفة ومكرورة، ولكنّها تتّخذ معنى خاصّاً في إطار مستلزمات التغيّر في العصر، على رأسها أن هذه المرحلة هي المرحلة الحاسمة إلى حدّ كبير في تكوين الكائن الإنسانيّ، ولا سيّما من حيث مواقفه واتّجاهاته وعاداته وسلوكه. وأهمّها أن هذه المرحلة هي المعنيّة الأولى بتكوين روح الخَلق والإبداع، تلك الروح التي هي رائدة أيّ تجاوب مع طبيعة العصر المتغيّرة، وهي التي تكوّن الشحنة المحرّكة للحضارة الحديثة كلّها.
وبعد، إنّ ما وقفنا عنده ممّا ينبغي أن تأخذ به التربية العربيّة »في شتّى مقوّماتها« من مواقف ملائمة للتغيّر السريع في عصرنا، لا يعدو أن يكون هيكلاً عظميّاً لما ورد في صلب الكتاب من تحديد أوفى لمستلزمات تطوير تلك التربية العربيّة، ولمراحل ذلك التّطوير، لا سيّما حين ننطلق من واقع التربية العربيّة اليوم. وقد سبق لنا أن تريّثنا عند هذا الواقع التربويّ وعند مستلزمات تغييره في كثير من أبحاثنا وكتبنا(1)؛ غير أن ما لا بدّ من قوله – في إطار بحثنا عن أساليب مواجهة التّغير في العصر الحديث – هو أن الفراق بين الواقع التربويّ العربيّ – على الرّغم ممّا أصاب في العقود الأخيرة من تقدّم كبير وما حقّق من نجاحات
لا تنكر – حين يقارن بالواقع التربويّ العالميّ يبدو فراقاً خطيراً لا بدّ من أجل تجاوزه من إعادة نظر شاملة وجذريّة في بنى التربية العربيّة. ويزداد الأمر خطورة حين ننتقل من الواقع التربويّ إلى الواقع الاجتماعيّ الأشمل الوثيق الصلة به.
ولا يتّسع المجال لعقد هذه المقارنة بين الواقع التربويّ العربيّ (ومن ورائه الواقع الاجتماعيّ العربيّ الشامل) وبين الواقع التربويّ العالميّ. وحسبنا بعض الإشارات والتلميحات:
1- بلغ عدد العرب في أواخر التّسعينيّات (290) مليون نسمة، وهم بذلك يمثّلون 4.5% من سكّان العالم.
ومن المقدّر أن يزيدوا على (450) مليون نسمة بعد خمسة وعشرين عاماً.
2- ينتشر أبناء البلاد العربية على مساحة تتجاوز (13) مليون كيلومتر مربّع، أي ما يزيد على 9% من مساحة العالم.
3- نسبة الأميّة بين الراشدين في البلاد العربيّة (في منتصف التّسعينيات) 45%. ومعنى هذا أن البلاد العربيّة تدخل القرن الحادي والعشرين مثقلة بحوالي سبعين مليون أمّيّ معظمهم من النساء.
4- لقد ازداد عدد الملتحقين بمستويات التعليم الثلاثة في البلدان العربيّة زيادة ملحوظة من 31 مليوناً عام 1980 إلى ما يقارب 56 مليوناً عام 1995. غير أنّه يلاحظ تباطؤ التزايد في نسب الاستيعاب في مستويات التعليم الثلاثة في التسعينيات. ولا تزال أمام البلدان العربيّة أشواط واسعة عليها أن تقطعها في المراحل الثلاث.
5- إذا نحن اقتصرنا على المستوى الثالث من التعليم (نعني التعليم العالي) – وهو أكثر المستويات ارتباطاً بتغيّر المعرفة في العصر كما سبق أن رأينا – تبيّن لنا أنّ على البلدان العربيّة – إذا هي تابعت مسيرتها وخطاها الحاليّة – أن تنتظر حوالي مائة عام لتصل إلى مستوى الالتحاق الذي ساد في البلدان المتقدّمة في أواسط التسعينيّات(1).
6- يشير تقدير منظّمة العمل الدوليّة الصادر في نهاية عام 1999 إلى أنّ الدول العربيّة تخسر 20% من ناتجها المحليّ من جرّاء ارتفاع البطالة. ويشير التقرير كذلك إلى أنّ متوسّط نسبة العاطلين عن العمل في البلاد العربيّة 14% وأنّ هذه النسبة تصل إلى 23% لدى خرّيجي التعليم. ونكتفي بهذا القدر المحدود من شواهد كثيرة، كي نبيّن أن طاقات الجماهير الغفيرة من أبناء البلدان العربيّة لا تزال مغلولة ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين، ذلك القرن الذي أصبح الأطفال والنساء فيه هم الذين يشكّلون السواد الأعظم من فقراء العالم، والذي يمكن أن يصبح فيه أربعة أخماس البشرية ضحيّة حريّة التجارة العالميّة وضحيّة العولمة في شكلها السائب المتوحّش الذي كشف عنه مؤتمر »سياتل« الأخير في شهر كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي.
وهذا كلّه يفرض على النظم التربويّة في البلدان العربيّة أن تتخلّى عن بناها التقليديّة، وأن تتجاوز – كما بيّنا في صلب الكتاب – مرحلة التوسع الكمّي إلى مرحلة التجويد النّوعيّ بل إلى مرحلة التّجديد والتّحديث والتّغيير، متوّجةً ذلك كلّه بما أطلقنا عليه اسم مرحلة »الاستباق والإرهاص والحسبان« ونعني بها المرحلة التي تستبق فيها التربية العربيّة أيّ طارئ جديد وأيّ تغيّر في المعرفة، وذلك عن طريق تكوين الإنسان العربيّ تكويناً يجعله قادراً على مواجهة أيّ جديد، بل على ابتكار الجديد نفسه، وذلك بفضل امتلاكه القدرة على التعلّم المستمرّ والتجدّد المستمرّ وبفضل ما تحقّق لديه من امتلاك لأدوات المعرفة وما قرَّ لديه من مواقف واتّجاهات قادرة على التكيُّف دوماً وعلى الابتكار والتجديد أبداً.
على أنّ الأمر لا يقتصر على تزويد الطالب بأدوات المعرفة وبالقدرة على التعلّم المستمرّ وبالطّاقات والمواقف الملائمة لروح العمل وروح العصر، بل يتجاوز ذلك كلّه إلى أمرٍ آخر يحتلّ الصدارة يوماً بعد يوم لدى منظّري المستقبل ولدى قادة التّربية، ونعني به ضرورة عناية نظم التربية (وسواها) بغاية كلّ معرفة وهدفها الأصيل، »نعني الإنسان وقيمه وأخلاقه«، وما ينجم عن ذلك من توليد حضارة إنسانيّة اليد والوجه واللّسان.
ومن هنا تريّثنا عند جانب القِيَم الإنسانيّة هذا في أكثر من موضع في كتابنا ولا سيّما في الفصل الثالث منه. والحقّ أنّ الفصل بين تطوّر المعرفة وتغيّرها وبين تطوّر القِيَم فصل غير جائز بل خطير. لا سيّما أنّ مسيرة عالمنا كما نشهده اليوم ومسيرة المعرفة فيه أخذت تطرح مشكلات إنسانيّة جديدة وضخمة. فبالإضافة إلى المشكلات التي تطرحها محاولات الهيمنة وتلك التي تطرحها السوق الليبراليّة السائبة، ثمّة مشاكل إنسانيّة مباشرة تمسّ كيان الإنسان بل رسالته على وجه البسيطة، تطرحها بوجه خاصّ الثورة البيولوجيّة والثورة »الجينيّة« أهمّها ما تطرحه من القدرة على التحكّم بالمورثات (الجينات) البشريّة بالإضافة إلى مشكلات »الاستنساخ« ومشكلات استخدام التقنيّات البيولوجيّة والجينيّة في الزراعة وفي عالم الحيوان. وقد أُذيع مؤخّراً أنّ فريقاً من العلماء قد توصّل إلى فكّ رموز أوّل »كروموزوم« (صبغيّ) بشريّ. وندرك جميعاً ما وراء مثل هذا الاكتشاف من مخاطر تمسّ جوهر كيان الإنسان. ومن هنا أخذ الباحثون يبحثون جادّين عن أهم مقوّمات القِيَم الأخلاقيّة في عصر العلم والتّقانة. فقال أحدهم (وهو الباحث الألمانيّ »هابرماس
J. Habermas«) بأنّ أهمّ قيمة في هذا العصر هي الحوار والتواصل، وقال زميله الألمانيّ (هانس جونز
H. Jonas) إنّ أهمّ قيمة هي »المسؤوليّة« وقال آخرون غير ذلك. وقد أشرنا إلى ذلك في صلب كتابنا
(ولا سيّما في الفصل الثامن عشر منه) وأشرنا بشكل خاصّ إلى أنّ لدى أبناء البلاد العربيّة مورداً غنيّاً للقِيَم في وسعهم أن يسهموا عن طريقه في بناء قِيَم العصر – بالتعاون مع قِيَم سائر الحضارات العالميّة الكبرى – ونعني بذلك المورد قِيَم التراث العربيّ الإسلاميّ. وقد تريّثنا في الكتاب عند أهمّ هذه القِيَم التراثيّة التي تصلح لعصرنا(1).
هكذا يستبين لنا في خاتمة المطاف أنّّنا أردنا لهذا الكتاب الذي بين أيدينا أن يكون دليلاً جامعاً لكلّ ما يتّصل بالسؤال الأساسيّ البديء الذي طرحناه: ما هي معالم التربيّة العربيّة اللاّزمة لمواجهة التغيّر السريع في المعرفة والعلم والتقانة (وسائر مجالات الحياة بالتالي) الذي نشهده اليوم والذي يعدو مُغذَّ الخطى نحو القرن الحادي والعشرين؟ ولا ندّعي أننا أجبنا عن هذا التساؤل العريض الضخم إجابة شافية. فالإجابة عن مثله تستغرق الأسفار العديدة. وحسبنا أن أشرنا إلى أهم المنطلقات وإلى أهم مفاصل البحث. حسبنا أننا اتخذنا هادياً لبحثنا الانطلاق من حقيقة أفضنا في شرحها، وهي أن التغير في العصر على أبواب القرن الحادي والعشرين يفرض تبنّي شعار واحد أساسيّ (دون تحقيقه كدّ ونصب) نعني شعار تكوين إنسان يعلّم نفسه بنفسه دوماً وأبداً، بفضل ما قرّ لديه من أدوات المعرفة وبفضل ما شَدَأ من مواقف وقيم وأساليب ملائمة للتغيّر وللتجدّد والإبداع. وقد وقفنا مفصّلاً عند هذا الشعار في فصول كتابنا (ولا سيّما الفصل الأوّل والفصل الثاني منه).
ويسعدنا أن نقدّم هذا الكتاب لعلماء التربيّة ودارسيها والمهتمّين بها في البلاد العربيّة. وقد حرصنا على أن يصدر هذا الكتاب عند مطالع القرن الحادي والعشرين، آملين أن يكون منطلقاً لحوار خصيب يغنيه ويسدّ ثغراته ويجعل منه مناسبة للتفكير الجادّ والعمل الدائب من أجل بناء التربية العربيّة الجديرة بالعصر والجديرة بتراث أمّتنا وثقافتها الإنسانيّة التليدة.
دمشق في 16/1/2000
عبد الله عبد الدائم