التربية العربية أمام تحديات العصر

هل تقوى قيم الحضارة العربية على خلق ذلك العالم الجديد؟
لا بد من انطلاق التربية من نظرية عربية شاملة في التربية
30 مليون طفل لقوا حتفهم بسبب نقص الغذاء في عام واحد
تنمية العالم الثالث هي الحل الأمثل للأزمات الاقتصادية في العالم المتقدم
هل يستطيع التعليم في بلادنا أن يقدم الإنسان المبدع الخلاّق؟
الطاقة العربية كبيرة ولكنها حبيسة ضمور الإنسان العربي!
الحضارة الإنسانية في محنة، والنظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي في أزمة تشرف على الانتحار، والوطن العربي – ذو الرسالة العربية والإنسانية – يشكو من دائه وداء العالم من حوله.
مشارف القرن الحادي والعشرين لا تحمل له، كما لا تحمل لسواه، وعوداً خيرة بل تنذر بسوء العاقبة، إن لم يجهد ويجهد سواه من أجل خلق عالم جديد.
هل تقوى الحضارة العربية، بما فيها من قيم ومثل وطاقات مادية وروحية، على الإسهام في خلق ذلك العالم الجديد وهل تفلح، من أجل ذلك، في توليد طريقها الحضاري الخاص، وفي التحريض على ولادة طريق حضاري عالمي جديد؟.
وأين تقع التربية العربية من هذا كله؟ وما هي معالمها المنشودة إن أرادت أن يكون لها في صنع هذا المستقبل العربي والإنساني بلاء وشأن؟
ذلكم هو السؤال الذي نطرحه بادئ ذي بداءة والذي نحاول أن نجد بعض الجواب عليه في حديث هذا المساء.
ونحن إذ نفعل ذلك ننطلق من حقائق أساسية لا بد من توكيدها منذ البداية:
أولها أن التربية العربية لا بد أن تكون جزءاً لا يتجزأ من نظرية عربية شاملة في التنمية عامة، وأن الفصل بين آفاق التربية وبين آفاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية جملة فصل يؤدي إلى تردي كلتيهما.
وثانيهما أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة للبلدان العربية، وفي القلب منها تقع التنمية التربوية، لا بد أن يكون مهادها وقوامها نظرة عربية حضارية خاصة وفلسفة اجتماعية أصيلة، منها تسقى التنمية العربية معناها وأهدافها ومن خلالها ترسم سبلها ووسائلها.
وثالثهما أن هذه النظرة العربية الحضارية الخاصة لا بد أن تبنى في إطار تصور محدث للحضارة العالمية جمعاء. وفوق هذه الحقائق كلها تنهض حقيقة راسخة وهي أن العرب – بما يملكون من تراث ومن تطلعات – لن يقبلوا أن يكونوا مجرد أتباع لحضارة عالمية تملى عليهم ولعالم يصاغ لهم، وأن من واجبهم أن يكون لهم في صنع مستقبلهم ومستقبل الإنسانية نصيب. لقد كانت رسالتهم دوماً، وستظل، رسالة إنسانية شاملة، ومن التفريط بها ومن التفريط في مسيرة الإنسانية أن يحجب عطاؤها وأن يحرموا ويحرم العالم من تراثها. ومما يمنح لهذا الدور العربي كامل معناه، ويجعل من جهده لتوليد صيغة حضارية جديدة مطلباً عملياً وواقعياً، إلى جانب كونه رسالة ومثلاً أعلى، أن التجربة العالمية كادت تخفق، وأنها تقود الإنسانية كلها نحو مصير مجهول بل مرذول، وأن الصيحة من أجل تصحيح المسيرة وتقويم الدرب غدت صيحة الجمهرة الكبرى من مفكري الإنسانية والمنظرين لها.
لنبدأ إذن بالأزمة فهي التي تومئ إلى الداء وتحدد قسمات الحل المنشود.
الأزمة العالمية
لقد قيل الكثير وكتب ما هو أكثر عن الأزمة التي تعصف بعالمنا اليوم. وليس هدفنا في مثل هذا الحديث القصير أن نقدم وصفاً شاملاً لها وأن نأتي بالشواهد والأرقام التي تفصح عنها.
وحسبنا أن نقول موجزين أن تلك الشواهد والأرقام تجمع على أن الإنسانية في شمالها وجنوبها كما يقال اليوم – لم تعرف في حين من الدهر أزمة مستطيرة كالأزمة التي تشكو منها اليوم، والتي سوف تكون أدهى وأمر في العقود القادمة إن لم تقم جهود جادة من أجل تجاوزها، يشترك فيها أبناؤها جميعهم. وقد يضلل الأنظار عن هذه الحقيقة أن هذه الأزمة الخطيرة تجأر وتبزغ في فترة وصل فيها العالم – والعالم المتقدم خاصة – إلى مستويات من التقدم العلمي والتكنولوجي لم يعرف لها نظير من قبل.
أما الحديث عن مظاهر هذه الأزمة المتصلة بالهوة القائمة والمتزايدة بين الدول المتقدمة والدول النامية أو المتخلفة، فحديث مكرور، نجتزئ منه بعض الشواهد القليلة ونكتفي بعرضها عرضاً موجزاً بل مخلاً من خلال لغة أشبه بلغة البرقيات.
لا نغلو إذا وصفنا النظام العالمي بنظام الفاقة والبؤس ما دام ثلاثة أرباع سكان المعمورة ما يزالون يعانون من صروف التخلف ألواناً، وما داموا لا يجنون أكثر من 3.5% من الدخل العالمي. إن ما يسمى باسم العالم الثالث يملك 80% من المواد الأولية في العالم، ومع ذلك لا يتجاوز نصيبه من الإنتاج الصناعي الإجمالي 7% بينما تستهلك الولايات المتحدة، التي لا يعدو سكانها 6% من سكان الأرض 50% من الثروات الطبيعية العالمية.
لقد بينت دراسات منظمة الزراعة العالمية أن 15% من سكان الأرض يتوافر لهم من الغذاء ما يفيض عن الحاجة، ويعيشون في المشتى ملاء بطونهم كما يقول الشاعر العربي، بينما يموت 10% من سكان المعمورة بسبب نقص التغذية. وثمة واحد من بين ستة أشخاص في العالم يشكو من نقص الغذاء. وتشير التنبؤات إلى أن هذه النسبة سوف تصبح عام 2000 خمسة من ستة أشخاص، إذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه.
وبهذا الصدد صاحت السيدة «سوزان جورج» قائلة: إذا كانت قراءة كتابي الجديد سوف تستغرق ست ساعات من وقتك، فاعلم أنك عندما تقلب الصفحة الأخيرة منه، يكون الموت قد قضى على 2500 شخص في مكان ما في العالم بسبب الجوع أو بسبب مرض ناجم عن الجوع.
ويطيب لبعض الكتاب أن يقولوا في سخرية مريرة إن غذاء الحيوان في البلدان الغنية مقدم على غذاء الإنسان في البلدان المتخلفة، وإن حيوانات تلك البلدان تستهلك ربع الإنتاج العالمي من الحبوب. بل إن إنتاج الصناعة الغذائية الخاصة بالكلاب في الولايات المتحدة يمثل تقريباً بالنسبة إلى الكلب الواحد ما يقارب الدخل المتوسط للفرد في البلدان المتخلفة.
وتبين الإحصاءات التي قدمتها منظمة اليونيسيف أن 30 مليون طفل ممن تقل أعمارهم عن 5 سنوات لقوا حتفهم عام 1978 بسبب نقص الغذاء. ومع ذلك دعي عام 1979 باسم عام الطفل.
ولا حاجة إلى القول أن ما ينفق سنوياً على التسلح في العالم يداني اليوم 500 مليار دولار، بينما لا يتجاوز العون الرسمي الذي يقدم للبلدان المتخلفة كلها 5% من هذا الرقم. بل لا حاجة إلى القول أن ثمن طائرة حربية (وهو ثمن يقارب 20 مليون دولار) يكفى لإشادة أربعين ألف صيدلية في المناطق الريفية التي تئن من المرض، وأن توفير 5% من نفقات التسليح في العالم قمين بأن يمكن البلدان المتخلفة من شراء سائر المعدات الزراعية اللازمة لرفع الإنتاج الغذائي والتغلب على مشكلة الغذاء العالمي.
هذا طرف يسير من الشواهد التي تشير إلى الهوة المتزايدة بين العالم المتقدم والعالم المتخلف، والتي تبين بأن عالمنا ما يزال مجعولاً إلى حد كبير للأغنياء من دون الفقراء، وللدول المتقدمة من دون النامية والمتخلفة. والنبوءات المتصلة بحال العالم في مطلع القرن الجديد أفصح قيلاً وأعمق تشاؤماً. لا سيما أن نسبة سكان البلدان المتخلفة إلى سكان البلدان المتقدمة آخذ بالازدياد المطرد، لأسباب كثيرة ننسى غالباً أهمها: وهو أن التناسل الكبير في البلدان المتخلفة ليس سبباً في الفقر والتخلف وإنما هو نتيجة لهما، وأن الحد من التناسل سبيله الوحيد رفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي والتربوي خاصة في تلك البلدان.
على أن معالم الأزمة العالمية ليست مقصورة على هذا الجانب وحده، نعني هوة التخلف، بل هي معالم شاملة تصيب البلدان المتقدمة نفسها وتمس النظام العالمي في البلدان المتطورة تكنولوجياً. وهذا في نظرنا أجدر بأن ننعم النظر فيه، وهو أفصح دلالة على عمق الأزمة التي تعصف بالعالم كله.
ذلكم أن بنية الحياة في هذه البلدان المتقدمة نفسها، أخذت تبدو، كما أجمعت الدراسات العديدة، بنية مريضة تقود الإنسان إلى حيث لا يدري، وتجعله يحيا في عالم يكاد يخرج عن سلطانه، ويتجاوز مشيئته وطموحاته. وجملة ما يقال اليوم في هذه الحضارة التي أفرزها التقدم العلمي والتكنولوجي أنها حضارة جعلت الإنسان أكثر تقدماً ولكنها لم تجعله بحال من الأحوال أكثر سعادة وأنها تحمل في ثناياها بذور مرضها بل فنائها.
لقد كان الناس حتى حين فخورين بحضارة تشمخ بما حققته من مكاسب علمية وتكنولوجية لم يعرفها الإنسان من قبل. غير أنهم ما لبثوا حتى أدركوا أن هذا النموذج الحضاري الذي انساقوا إليه دون تبصر وتحسب، يدفعون ثمنه غالياً، وأنه أدى ويؤدي يوماً بعد يوم إلى توليد مشكلات حياتية وإنسانية عميقة: من مثل مشكلات البيئة وتلوثها وفسادها، ومشكلات الطاقة وقصورها، ومشكلات التحضر السريع وولادة المدن الكبيرة المهلهلة والمرهقة، ومشكلات العنف وتزايده، والتسلح وأخطاره، والمفاعلات النووية وأخطارها على البيئة والإنسان، وتآكل التربة وانتشار الصحراء، والبطالة المتزايدة، ونقص الغذاء، وتقصير المساكن عن الحاجة، وسوى ذلك كثير، هذا فضلاً عما هو أدهى وأخطر، نعني تدهور القيم الإنسانية والخلقية، وتزايد المشكلات النفسية، وتفكك الأسرة وانحلالها، وذوبان الثقافات القومية، وتزايد العداء بين الأفراد والشعوب في حمأة السباق على الاستهلاك الباطل والدعة الموهومة، إلى غير ذلك.
وفي الجملة لقد انقلب السحر على الساحر، فإذا بالحضارة التي خلقت من أجل الإنسان تخضع الإنسان لعنفوانها وإذا بالمارد الذي انطلق، مارد العلم والتكنولوجيا، يستعبد صاحبه ومبدعه حتى ليصحّ قول الصوفي ابن العربي في فصوصه:
فأنت عبد وأنت رب
لمن له أنت عبد
ولنضرب مثالاً واحداً على مشكلة من هذه المشكلات، والأمثلة أكثر من أن تحصى:
تشير بعض الإحصاءات إلى أن الإنسان يقضي كل دقيقة على عشرين هكتاراً من الغابات في العالم. ولا عجب فالورق اللازم لطباعة العدد الأسبوعي من جريدة النيويورك تايمز، وهو عدد يخصص حوالي 80% منه للإعلانات، يستلزم تقويض 15 هكتاراُ من غابات كندا، والعدد اليومي الذي تصدره الجريدة نفسها يتطلب الإطاحة بستة هكتارات.
السؤال الأساسي الذي يطرح اليوم إذن هو السؤال الآتي: هل تقوى الإنسانية على الإمساك بأعنة مصيرها وزمام قدرها أم أن الأحداث والأزمات هي التي ستقودها وتصوغ مستقبلها؟
طبيعة الأزمة وحلولها
وههنا نخف إلى القول إن جانباً كبيراً من أزمة البلدان المتقدمة مرده إلى الإحجام عن إدراك الصلة العضوية بين هذه الأزمة وأزمة البلدان المتخلفة والنامية. فالعالم المتقدم – رغم مآسيه المتعددة ورغم وصوله إلى طريق يكاد يكون مسدوداً – يحاول أن يصرف بصره عن حقيقة أساسية: وهي أن حل مشكلات العالم المتقدم ومشكلات العالم المتخلف معاً لا يكون إلا بخلق نظام عالمي مشترك، متوازن المصالح، متضامن الأهداف. «إن القيام بجهد عالمي مبتكر تسهم فيه بلدان العالم جميعاً من أجل تجاوز النظام القائم، هو الطريق الوحيد للتغلب على أزمة العالم في شمالها وجنوبها. ومن عجب أن البلدان المتقدمة لم تدرك أو لا تحاول أن تدرك أن تنمية العالم الثالث هي التي تؤدي إلى حل الأزمات الاقتصادية التي يشكو منها العالم المتقدم نفسه، وهي التي تفتح آفاقاً جديدة لتوظيف الطاقات العلمية والتكنولوجية التي يملكها، ولتوسيع رقعة نشاط ثرواته المادية والبشرية». وكما يقول التقرير الحديث الذي وضعته لجنة برئاسة «ولي برانت» مستشار ألمانيا الاتحادية سابقاً: «أننا نعي اليوم بأن التنمية السريعة للجنوب (يعني العالم الثالث) تخدم أيضاً مصالح شعوب الشمال». إن الغرب، إذا كان يرغب في أن تكون له حصة وافية من قطعة الحلوى العالمية، لا بد أن يحرص على جعلها أكبر مما هي عليه الآن، عن طريق إشراك العالم الثالث في تنميتها. وكيما ندرك طبيعة العلاقة العضوية بين تنمية العالم المتقدم وتنمية العالم المتخلف لنعد قليلاً إلى وراء، إلى تاريخ تطور الحضارة الغربية.
كلنا يعلم أن الانطلاقة الصناعية الكبرى في الغرب خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين قد تمت على حساب استغلال الثروات الطبيعية لبلدان العالم الثالث التي كانت مستعمرة آنذاك.
بل كلنا يعلم، وهذا أفصح وأبين، بأن استغلال الموارد البترولية لبلدان العالم الثالث بأرخص الأثمان حتى أوائل السبعينات، هو الذي حقق للغرب هذا النمو الاقتصادي الكبير الذي ولد مجتمع الاستهلاك. وكما قال «جان جاك سرفان شريبر» في كتابه الجديد «التحدي العالمي»: «إن البترول الرخيص ومليارات البراميل المستخرجة منه والتي تم شراؤها بثمن بخس وبأسعار لم تتغير خلال الخمسينات والستينات وبداية السبعينات، هي التي مولت تمويلاً كاملاً انطلاقة المجتمعات الصناعية في أوروبا وأمريكا». لقد ظل سعر البترول ثابتاً خلال ما يقرب من سبعين عاماً، وبيع بأقل من دولارين للبرميل الواحد. فبين عام 1900 وعام 1950 وارتفع سعره فقط من 1.20 دولار إلى 1.70 دولار. ومن عام 1950 إلى عام 1970 ظل ثابتاً في مكانه، إذ بيع بـ 1.80 دولار. الأمر الذي يبيح لنا أن نسائل مع «شريبر» نفسه: ما هو مجتمع الاستهلاك إن لم يكن مجتمع البترول الزهيد الثمن، المبذول للغرب في سخاء؟ «بل من حقنا أن نقول معه: أن تفسير هذه المغامرة التي قادت الغرب دون ما تردد أو تفكير إلى أن يصبح مستعمرة من مستعمرات البترول، هو أن هذا البترول ظل خلال سنوات طويلة مجانياً إلى حد كبير».
واليوم، بعد أن تغيرت بنية العالم، وبعد أن استقلت بلدان العالم الثالث، يصحو الغرب من سكرته ويدرك أن الثروات الطبيعية في العالم الثالث وأهمها الثروات البترولية لا يمكن أن تكون نهباً له وأن تظل مسخرة لخدمة نظام استهلاكي لا هدف له إلا إذكاء الحاجة إلى الاستهلاك لدى الناس وإثارة نهمهم، لا لشيء إلا ليستمر مجتمع الاستهلاك في مسيرته ويسعد القلة من المنتفعين منه.
الحديث في هذا الشأن ذو شجون وهيهات أن نوفيه بعض حقه في مثل هذا المقام. وآية هذا كله أن العالم في أزمة، وأن مرد هذه الأزمة إلى عناد الدول المتقدمة وإصرارها على أن تعيش الماضي لا الحاضر والمستقبل، وإلى ضعف إدراكها للمتغيرات الجديدة التي حدثت في العالم والتي تدعو إلى خلق نظام عالمي جديد، أهم ما فيه أن يكون مجعولاً للعالم كله، وأن يكون محوره تنمية العالم الثالث.
دور العرب
وحتى يحين ذلك اليوم الموعود، بل من أجل أن يحين، يتوجب على الدول النامية، وعلى رأسها الدول العربية، أن تدلي بدلوها بدلاً من أن تقف متفرجة، وأن تقتحم الميدان صارخة متحدية لا مستخذية ضعيفة، وأن تكون بالتالي بمثابة الخميرة التي تدفع إلى توليد العهد الجديد. لا سيما أن الدول العربية تملك في هذه الحلبة ورقة أساسية يرجى أن تسخرها من أجل خيرها وخير الإنسانية، نعني ورقة البترول. بل هي تملك ما هو أثمن وأغلى من تلك الورقة، نعني قيم تراثها العربي الإسلامي الأصيل التي تقف اليوم من جديد شامخة عزيزة أمام إفلاس الإيديولوجيات العالمية في الشرق والغرب.
ومما يدعو إلى الألم أن هذه البلدان العربية لم تدرك بعد حق الإدراك مواطن القوة عندها، ولم تع حق الوعي دورها العربي والعالمي، بل ما زالت إلى حد بعيد تسير على وجل واستحياء، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، تلهث وراء الحضارة الغربية دون أن تضعها في موضعها الصحيح، تصطنعها حيناً وتنكرها حيناً آخر، وتمتاح منها نمط حياتها غالباً، دون أن تضع ذلك النمط موضع التساؤل كما فعل أبناء الحضارة الغربية أنفسهم. فما السبيل إذن إلى توليد رؤية عربية أصيلة تقدم حلولاً سليمة للعرب وللعالم؟
الإجابة على هذا السؤال الضخم الواسع عديدة الجنبات. غير أن أهم ما فيها الربط الوثيق بين معالجة مشكلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومشكلات تنمية الثروة البشرية. بل أن تنمية الثروة البشرية تقع في القلب منها، وبدونها لن يكون العلاج إلا سطحياً زائفاً عابراً. وفوق هذا وذاك، لا علاج للأزمة العالمية بتمامها إلا عن طريق تجويد الإنسان وتجويد تكوينه والارتفاع بطاقته الخلاقة المبدعة. إن وضع الإنسان في مركز الاهتمامات العالمية هو السبيل لتجاوز أزمة العالم وقلب الوضع العالمي المنحرف عن مجراه. ولعل المسألة في العالم كله لم تعد مسألة الهوة التكنولوجية بل مسألة الهوة الإنسانية، ونعني بها الهوة القائمة بين نظام اقتصادي اجتماعي معقد وتائه وبين قدرتنا على السيطرة عليه.
دور التربية العربية
ومن هنا يبرز دور التربية العربية في خلق الحضارة العربية المنشودة وفي الإسهام في بناء حضارة عالمية جديدة. ولن نقدم هنا عرضاً مفصلاً لواقع التربية في البلدان العربية ولمشكلاتها، فمثل هذا العرض تمتلئ به المؤلفات والدراسات. وحسبنا من ذلك كله أن نشير إلى جانبين، قمينين عندنا بأن يقدما بعض الجواب على المسألة الأساسية التي دائماً نكررها، نعني مسألة توليد نظرية حضارية عربية، جديرة بأبنائها مسهمة في بناء العالم. أما الجانب الأول فيتصل بالنمو الكمي للتربية في البلاد العربية وأما الثاني فيتصل بالنمو النوعي الكيفي. ولنبدأ بأولهما:
كلنا يعلم أن التربية في البلاد العربية جملة حققت نمواً كمياً كبيراً، ولا سيما خلال الستينات والسبعينات. ويكفي أن نذكر أن عدد الطلاب بين عام 1960 وعام 1980 قد ازداد ثلاث مرات في التعليم الابتدائي ووصلت نسبته إلى 63% من الطلاب الذين في سن ذلك التعليم، وأنه تضاعف ست مرات في التعليم الثانوي ووصلت نسبته إلى 36% ممن هم في سنه، وأنه تضاعف ثماني مرات في التعليم العالي ووصلت نسبته إلى 7% ممن هم في سن ذلك التعليم. أما نسبة الأمية لدى السكان دون الخامسة عشرة فقد هبطت من 80% عام 1960 إلى 69% عام 1980.
ومع ذلك فما تزال هناك أشواط كبيرة يتوجب على التعليم في البلدان العربية أن يقطعها، إذا هو طمح إلى تعميم التعليم الابتدائي بل المتوسط، وإذا هو عزم على التوسع في التعليم الثانوي والعالي توسعاً كافياً، وإذا هو شد الرحال نحو مكافحة الأمية التي ما تزال مستشرية، فضلاً عن التوسع في التعليم السابق على المرحلة الابتدائية الذي ما يزال هزيلاً والتوسع في التعليم المهني والفني الذي ما يزال مقصراً عن الشأو المطلوب.
وههنا تبرز المشكلة: إن هذا التوسع المطلوب شاق وعسير، تقصر عنه الإمكانات المالية والبشرية للدول العربية بما في ذلك الدول البترولية نفسها حيث ينافس التوسع في التعليم الضروري اللازم سائر مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وحسبنا أن نذكر، برهاناً على ذلك، إن البلدان العربية اليوم تخصص ما يقرب من
20-25% في المتوسط من ميزانيتها للتربية، وتخصص ما يزيد على 6% من الناتج القومي العام. ولاشك أن جانباً من حل هذه الأزمة التربوية يكمن في التعاون العربي الشامل، وهو تعاون قائم على صور مختلفة، ويرجى أن يتسع ويعزز. على أن هذا الجهد العربي المشترك لا يكفي ولا يجدي إلا إذا انطلق من شعار أساسي: هو توليد نظم تربوية قادرة على أن تحقق أمثل استخدام ممكن للموارد المالية والبشرية المتاحة، أي قادرة على أن تقدم تعليماً أفضل لعدد أكبر من الطلاب بنفس الإمكانيات المتوافرة.
إن مثل هذا الطلب الجوهري لا يتحقق إلا من خلال تغيير شامل في أهداف التربية وبنيتها ومحتواها وطرائقها وإدارتها والتخطيط لها، بحيث تولد تقنيات جديدة قادرة على زيادة المردود الإجمالي للعملية التربوية، أي قادرة على الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة كما قلنا ونقول. ومن المكرور أن نقول أن البديل الوحيد دوماً وأبداً عن نقص الموارد الطبيعية والمالية توظيف العقل الإنساني والذكاء الإنساني والابتكار الإنساني من أجل حسن استخدام تلك الموارد أو من أجل ابتداع سواها. ولا حاجة بنا إلى تعداد التقنيات التربوية الجديدة القمينة بأن تبلغنا هذه الغاية، فالأدب التربوي العربي والعالمي طافح بالإشارة إليها. إنها على سبيل المثال لا الحصر: تغيير إطار التربية التقليدي الذي كاد يصبح أزلياً أبدياً، إطار الصف المحدود الذي يضم عدداً محدوداً من الطلاب يعلمهم معلم، التعليم عن طريق الوسائل السمعية البصرية، القضاء على الهدر والتسرب، تخفيض كلفة الأبنية المدرسية، إسهام الجماعات المحلية في بناء المدارس وتمويل التربية، اللجوء إلى المدرسة ذات المعلم الوحيد، اللجوء إلى المدرسة بلا صفوف، التعليم عن طريق «فريق من المعلمين»، التعليم الذاتي، الخ…
على أن ما يعنينا من هذا كله هو أن تحليل الجانب الكمي للتربية في البلدان العربية يقودنا حتماً، كما نرى، إلى التأكيد على أهمية الجانب الكيفي النوعي، فتجويد الكيف والنوع، فضلاً عن قيمته في ذاته، هو السبيل إلى التغلب على مشكلات الكم.
سوى أن للجانب النوعي بعداً آخر هاماً هو الذي نود أن نتريث عنده لارتباطه الوثيق بالمسألة التي طرحناها. مسألة الرؤية العربية للحضارة. ذلك أن المقياس الأساسي عندنا للجودة النوعية في التربية، قدرتها على الإسهام في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي في خلق الإنسان العربي المرجو من أجل توليد حضارة عربية أصيلة متقدمة.
ولن يقنعنا في هذا المجال أن نعيد حديثاً غدا مكروراً فنقول أن مثل هذا الإسهام للتربية في التنمية الشاملة للمجتمع يكون أولاً وقبل كل شيء بالتوسع في التعليم المهني والفني ويجعل التعليم موجهاً نحو العمل المثمر والإنتاج المجزئ. وفي رأينا أن المسألة تتجاوز هذا الهدف وأنها أعمق منه وأبعد. المسألة كلها عندنا تتلخص في جملة واحدة: كيف نجعل التربية عندنا – في شتى أنواعها وأشكالها – أداة للإسهام في إبداع الحضارة بدلاً من الاكتفاء باستهلاكها دون روية أو تبصر؟ وتلكم مسألة فيها مسائل:
– أولها أن نتساءل هل يقوى التعليم العلمي والمهني والفني في مراحله المختلفة في بلادنا على أن يكون فعلاً مبدعين للعلوم والفنون والتكنولوجيا، أم أنه لا يعدو أن يكون أتباعاً ثانويين لتقدم علمي وتكنولوجي ليس لنا يد في خلقه؟
– وثانيهما أن نتساءل من وراء ذلك وفوق ذلك هل الهدف الصحيح والسبيل الأهم أن نعنى خاصة بتطوير التعليم العلمي والفني والتكنولوجي، أم أن الهدف فوق هذا وقبل هذا أن نكون الإنسان المبدع الخلاق في شتى فنون المعرفة البشرية، وعلى رأسها العلوم الإنسانية؟ هل صحيح أننا نحتاج إلى فنيين ومهنيين دون ما حاجة إلى علماء في ميدان علم الاجتماع وعلم السياسة والتاريخ والتربية والتراث العربي الإسلامي وسواها من العلوم التي تمس حياة مجتمعاتنا في صميمها؟
الحق أن ما نحتاج إليه هو الإبداع والأصالة في شتى مجالات المعرفة الإنسانية، فنيها وإنسانيها، وأننا في هذه كلها ما نزال نعيش على فتات الغرب وعلى موائده. أو ليس مما يجأر أمام الأعين أن أفضل الدراسات عن تراثنا العربي الإسلامي نفسه نستقيها من الغرب؟ أو ليس مما يبقينا في مرحلة العجز أننا نتحدث عن مجتمع عربي لا نعرفه وعن إنسان عربي لا نعرفه؟
على أننا حين نؤكد أهمية التربية القادرة على الإبداع والعطاء في شتى المجالات ولا سيما مجالات العلوم الإنسانية، نفعل ذلك انطلاقاً من أمور عديدة:
الأول أن الإبداع كل لا يتجزأ، وأن من غير الصحيح القول أن المتخلف في مجال العلوم الإنسانية يمكن أن يكون متقدماً في مجال العلوم الفنية والتكنولوجية، والعكس صحيح.
والثاني أن الفضل الأكبر لحضارتنا العربية الإسلامية في أوج ازدهارها أنها جمعت جمعاً وثيقاً بين العلوم الفنية التطبيقية وبين العلوم الإنسانية وخلقت بذلك ما يدعوه فانتيجو «المعجزة العربية».
والثالث أن أزمة الحضارة العالمية، كما ذكرنا، أزمة إنسانية أولاً وقبل كل شيء، ولن نستطيع أن نسهم بدورنا في تصويبها إلا إذ جعلنا اهتمامنا بالإنسان محور فلسفتنا التربوية.
والرابع وهو الأهم، أن أية حضارة لا يمكن أن تتكون وأن تبدع إلا إذا أدركت أولاً ذاتها ووعت خصائصها، وبذلك تصبح قادرة على توليد ثقافة ذاتية أصيلة. ومشكلة المشكلات في حياتنا العربية أننا معرضون لهجمات حضارية تكاد تنسينا أصولنا وتستلب ثقافتنا الأصلية وتشوه قيمنا الغالية. بل مشكلة المشكلات أن عهوداً طويلة من الاستعمار والتخلف خلقت لدى الإنسان العربي ضرباً من الشعور بالدونية والعجز والانسحاق أمام الغرب، وأننا أحوج ما نكون، كيما ننطلق في عزم وإيمان، إلى أن نستعيد هويتنا الضائعة وثقتنا المهزوزة.
ولا يفهمن من قولنا أننا نقلل من شأن التقدم العلمي والفني والتكنولوجي. إن هذا التقدم شئنا أم أبينا روح العصر وقوامه. ولكن كيما نضع هذا التقدم في إطاره الصحيح، وكيما نكون فيه مبدعين لا مستهلكين، وكيما نكيفه وفق حاجاتنا الخاصة، لا بد أن يكون تركيزنا في التربية العلمية والتكنولوجية التي نقدمها، فضلاً عن أنواع التربية الأخرى، على مكان التقدم العلمي التكنولوجي في حضارتنا وحضارة العالم، وعلى إعادة الثقة بقدرتنا على الإبداع فيه، وعلى جعل جهدنا وبلائنا في هذا الميدان جزءاً لا يتجزأ من نظرة أشمل إلى صيغة الحضارة التي ننشدها.
لقد قيل الكثير عن نهضة اليابان السريعة منذ عصر «ميجي» الشهير عام 1868. وظن الكثيرون أنها وليدة البعوث التي أرسلت إلى الغرب تسقى من معارفه وتقنياته، وثمرة عطاء الاختصاصيين الغربيين الذي جاءوا إلى اليابان للعمل على تطوير صناعتها. وفي هذا الظن نصف الحقيقة لا الحقيقة كلها. ذلك أن هذه الجهود كلها ما كانت لتثمر لولا أن أكد القانون الملكي الذي صدر حينذاك على أهمية الانطلاق في هذا كله من منطلق الأصالة القومية ومن نظام تربوي يضع المهاد العلمي التكنولوجي اللازم جنباً إلى جنب مع عنايته الخاصة بتكوين إرادة العمل القومي.
إن تأكيد الأصالة الذاتية والثقافية الذاتية لا يحول، ولا ينبغي أن يحول، دون التحديث. ولكن التحديث لا يجد طريقه إلى الحياة ولا يأخذ مجراه السليم من دون أصالة وعود إلى التراث. ويأخذ هذا القول معناه الأعمق إذا ذكرنا مرة أخرى أن حضارة العالم في أزمة، وعلينا أن نجتنب تقليدها بعد أن آذنت بالخفوت، وأن تفاعل الثقافات وتضامن الهويات المختلفة للشعوب هما سبيل تصحيحها وتقويمها.
دور الإبداع
وموقد الأصالة، موقد الذاتية، تفجير الإبداع. ومن هنا ترتد المسألة كلها إلى البحث عن تربية عربية تغذي الإبداع، وتستخرج طاقات الابتكار لدى الإنسان إلى أبعد مدى ممكن.
وتعهد التربية للإبداع مطلب ينبغي أن يبدأ منذ نعومة الأظفار ويستمر في مراحل التربية المختلفة. على أن التربية السابقة على المدرسة والتربية في مرحلة التعليم الابتدائي تلعبان الدور الأكبر في رعايته وتفتيقه. أما وسائل ذلك فليس ههنا مجال الحديث عنها. ولعل أهم ما فيها تدريب الطالب على العمل الشخصي والبحث الذاتي المستقل، وإفساح المجال أمام أصحاب المواهب الفذة في نظام تربوي لا يعنى مع الأسف بالطلاب الذين قد يكونون متوسطي القدرة في مواد مدرسية عديدة غير أنهم أفذاذ مبدعون في مجال أو مجالين، وتشجيع سائر أشكال الإبداع الحر في الإنشاء والرسم وسواهما، وتنمية الخيال الخلاق، وتعريف الصغار منذ ميعة الصبا على عالم العلم والتكنولوجيا، واستخراج العقل الذي في أيديهم والذي يفوق العقل الذي في رؤوسهم على حد تعبير غاندي، والإفادة من فضائل استخدام الأصابع الخمس، وتنمية روح النقد والتحليل والمناقشة، وغير ذلك كثير. ولا حاجة إلى القول أن تنمية البحث العلمي ووسائله
ولا سيما في مرحلة التعليم العالي، جانب هام من جوانب تعهد تربية الإبداع هذه. على أنها لا تؤتي ثمارها إلا إذا سبقتها ومهدت لها رعاية لهذه القدرة طويلة ومستمرة منذ الصغر. ولقد خطت التربية الحديثة خطوات كبيرة في طريق تكوين روح الخلق والإبداع هذه، إيماناً منها بأن من غير الجائز أن نترك أمر نمو هذه القدرة للصدف وحدها، وانطلاقاً من حقيقة أساسية هي أن الخيال المبدع هو الذي يلعب الدور الأكبر في أية تنمية، ولا سيما في التنمية الصناعية. ومما يقوله «شريبر» نفسه في كتابه القديم عن «التحدي الأمريكي»: «إن الحرب التي تواجه الدول الأوروبية، أمام التحدي الأميركي، لا تسدد إلينا ضرباتها عن طريق الدولار أو أطنان الفولاذ، ولا حتى عن طريق الآلات الحديثة بل عن طريق الخيال المبدع وموهبة التنظيم». والقوة الحديثة عنده ثاوية في القدرة على الابتكار.
وكثير من المربين المحدثين اليوم يرون أن من واجبنا التخلي عن المفهوم العقلي والموسوعي الخالص للثقافة، وتبني مفهوم أرهف واشمل للتربية، قوامه أن ننمي لدى الطفل – إلى جانب تذوق المعارف – القدرة على التغير والتغيير والإبداع، أن نتيح له السيطرة على العوامل والشروط الاقتصادية والاجتماعية التي تحيط به كيما يحيا غايات ثقافية مستقلة وكيما يسهم إسهاماً فعالاً في الحوار الفكري والعام. ومما يقوله أحد المربين: إن كبت النشاط المبدع لدى الطفل من قبل الآباء والمعلمين هو أولى الأسباب الدالة على كبت النشاطات الخلاقة من قبل المجتمع. ولقد ظهرت في السنوات الأخيرة عشرات المؤلفات التي تعنى بمسألة القدرة على الإبداع وأساليب تكوينها لدى الأطفال والشبان. وكلها تؤكد أهمية هذه القدرة، وتشير إلى أن بذورها قائمة لدى كل طفل، وأن التربية المألوفة هي التي تطفئها غالباً، حتى ليحق لنا أن نتساءل مع القصاص الفرنسي «الكسندر دوما»: «كيف يتأتى أن يكون معظم الأطفال على حظ كبير من الذكاء، وأن يكون معظم الراشدين على حظ كبير من الغباء؟»، وأن نجيب معه على هذا السؤال قائلين: «لا بد أن تكون التربية هي المسؤولة عن ذلك». ولنقل عابرين، خوفاً من أي لبس، أن هذه القدرة على الإبداع لا ترتد إلى الذكاء، ولعل الذكاء من دونها أشبه بالثمرة الجافة. إنها ملكة تزكو بالرعاية والدربة، وتحمل وتتئم إذا نحن تعهدناها، وتغل ثروات فكرية ومادية ليس لانطلاقتها حد. إنها الخروج على المألوف، ومجاوزة الاتباع، وركوب طريق المبادرة، وتخيل الطريف المولد، وهجران السنة والنوم، وارتياد المجهول واقتحام المغلق.
ويشط بنا القلم إن نحن مضينا في الحديث عن هذه القدرة وعن وعودها وآفاقها البعيدة التي حملت شعراءنا العرب على الظن بأن وراء الإبداع الشعري روحاً من عبقر الجن. وجملة ما نود أن نصل إليه من وراء هذا كله أن العمل على توليد تربية عربية قادرة على خلق نمط حضاري عربي لا يعني فقط – كما يخيل إلينا عادة – أن نصب جهودنا على نشر التعليم وتنويعه وتفريعه وتجويد مناهجه وطرائقه، بل يعني – أولاً وقبل كل شيء – أن نجعل الإنسان الذي يتلقاه قادراً على التفتح إلى أبعد مدى وعلى تجاوز ذاته دوماً وأبداً وعلى تغيير مجتمعه وتجديد مجتمعه من خلال نظرة مبدعة خلاقة رعيناها فأحسنا رعايتها. أو ليست أزمة التخلف الحضاري في البلاد العربية أزمة ترتد في النهاية إلى ضمور الإبداع في المجتمع العربي قروناً طويلة من الزمن، بعد انهيار الدولة العربية الإسلامية لأسباب مختلفة، وبعد أن حل محل حرارة الإسلام ووثبته الحضارية الأولى جمود واتباع وتقليد؟ بل أو ليست الوثبة الإبداعية التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية والتي تلقفها الغرب هي التي فجرت بذور الحضارة الغربية كلها؟ أو لم يغادر الغرب، بفضل الحضارة العربية خاصة والحضارة اليونانية إلى حد ما، أساليب الاتباع والجمود التي عرفوها أيام العهد الوسيط في أوربا لينطلقوا منذ أيام عصر النهضة نحو حضارة تنضو عنها مخلفات التفكير الاسكلائي الجامد والقياس الارسططالي العقيم، وتجعل من الاستلقاء في أحضان الطبيعة واستكناه أسرارها شعار حياتها، بعد أن كانت الطبيعة وادياً للدموع ومسرحاً للخطيئة؟ بل أو ليست الروح التي عرفت باسم روح «بيكون» والتي فجرت الحضارة الغربية الحديثة هي في حقيقة الأمر روح الحضارة العربية الإسلامية سرت إلى الغرب وانتشرت في شعابه؟
خاتمة
وبعد، لعلنا ندرك في خاتمة هذا الحديث أن الجهد العربي الذي نرجوه لتوليد نظرة عربية خاصة قادرة على تجنيبنا مخاطر الأزمة العالمية وعلى تمكيننا من الإسهام في بناء الكيان العالمي الجديد، جهد لا بد أن ينطلق أولاً من التربية، ومن تربية مبدعة خلاقة. وقد لا نقوى اليوم على تحديد معالم تلك النظرة الحضارية العربية الخاصة، لأنها بناء لا اكتشاف. إنها بناء نشيده من خلال عمل طويل النفس نسلطه على التربية لنجعل منها طاقة جديدة تفجر قوى الإنسان العربي وتقده قداً جديداً مبتكراً. وعندما يعي الإنسان العربي ذاته ومجتمعه وتراثه والعالم من حوله، وعندما يغدو مزوداً بالخيال الجموح الذي يستشرف رؤى المستقبل، وعندما ينطلق لديه مارد النقد والمبادرة والعطاء الأصيل، لا بد أن يصبح قادراً على صياغة نظرته الجديدة إلى العالم ونظريته العربية المحدثة.
المسألة إذن ليست مسألة وعظ وإرشاد، ليست أن نبين للفتى العربي والطالب العربي ما عليه أن يفعل. إنها تزويده فعلاً بالقدرة على الفعل، أي بالقدرة على المبادرة والتغيير والإبداع. والمسألة ليست كذلك أن نضع للتربية أجمل الأهداف، بل أن نقلب تلك الأهداف إلى أنماط سلوكية، كما يقول المربون. والمسألة فوق هذا وقبل هذا ليست أن نكون العالم والمهني والفني والمؤرخ والمربي وعالم الاجتماع ومن إليهم، بل أن نكون لدى هؤلاء جميعاً القدرة على الإبداع المستمر.
إن الحدود التي تقف أمام النمو الاقتصادي والاجتماعي، لا يتجاوزها إلا ما تحمله قدرة الإنسان على التعلم والابتكار من إمكانات لا حد لها. وأمام قولنا أن للنمو الاقتصادي حدوداً، ينبغي أن نضع قولاً مقابلاً: لا حد للتعليم. وفي تراثنا العربي الإسلامي:
يظل المرء عالماً ما طلب العلم فإذا ظن أنه علم فقد جهل وفي الحديث الشريف: منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب مال. والتعليم في أحدث معانيه يعني العملية التي تهيئ الإنسان لمواجهة مواقف جديدة.
تلكم عندنا شروط النهضة التربوية التي تمهد السبيل لولادة حضارة عربية قادرة على الإجابة على التحديات التي تواجه البلدان العربية وعلى الإسهام في حل الأزمة الحضارية العالمية.
لقد زال إلى غير رجعة ذلك الحين من الدهر الذي كان يخيل إلينا فيه أن التربية دوماً وأبداً أداة التقدم ووسيلته. فالتربية التي تؤدي إلى التقدم ليست أي نوع من التربية، بل لا بد أن تشتمل في واقعها وممارساتها على الشروط اللازمة للتقدم. وإن لم نفعل كانت التربية عبئاً قبل أن تكون عوناً، وكانت أداة لتخريج أدعياء الثقافة وهم أخطر من فاقديها، وقادت لا محالة إلى مجانبة أهداف التنمية والتقدم بل السير في عكس اتجاههما.
إن الطاقة العربية طاقة كبيرة ولكنها حبيسة ضمور الإنسان العربي وركوده. وما نجده من تخلف في شتى ميادين حياتنا، الزراعية منها والصناعية والعلمية والتكنولوجية، وليد هذا الضمور وذلك الركود. كل شيء في إمكاناتنا المادية والبشرية يشير إلى أن المتوقع والمأمول أن نكون أفضل حالاً مما نحن عليه. فهل نملك حقاً تلك الإمكانات؟ الراجح أننا لا نملكها لأننا لا نملك القدرة على استغلالها أوسع استغلال ممكن، ولأننا لم نحسن تكوين الإنسان القادر على ذلك. ومع ذلك ما نزال نتابع السير نحو سراب هارب، فنجهد ونجهد لنقل العلم والتكنولوجيا وأدواتها دون أن نكون القدرة الذاتية على إبداعهما، وننسى وسط الزحام محور المحاور وقطب الرحى، نعني الإنسان المبدع المجدد. من أعماق ذلك الإنسان ينبغي أن نمتاح القدرة والغنى، ومن تفجير طاقاته ينبغي أن نرتاد الطريق الجدد، ومن إيقاظه بعد سبات وتعريفه بذاته وتراثه وعالمه نرجو توليد رؤية عربية أصيلة قمينة بأن نحاور العالم من خلالها.